أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

لماذا تصعد الميليشيات عملياتها وتطالب بخروج الأمريكان؟

الكثيرون يرون أن استمرار قيام الميليشيات في العراق باستهداف القواعد التي تتواجد فيها قوات أمريكية سواء بالقذائف أو بالطائرات المسيرة أو بغيرها، وتصاعد ذلك الاستهداف في الفترة الأخيرة وقيام القوات الأمريكية بالرد هنا وهناك على تلك الهجمات بقتل بعض من قيادات ميليشيات الحشد الذي تؤكد تورطهم في عمليات الاستهداف والقصف الذي تطال القواعد التي تتواجد فيها قوات أمريكية (في العراق أو في سوريا) أو بقصف مقرات لتلك الميليشيات…
نقول إنهم يرون ما يحدث اليوم من تلك الأفعال مثيرا للدهشة والتساؤلات، ومرد ذلك يعود إلى أن الواقع ومعطياته لا يتناسب مع ما يحدث، وأن المنطق المستند إلى رؤية المتابع والمستمع المتنبه لا ينسجم هو الآخر مع ما يحصل، إذ إنه يأتي خلافًا لطبيعة التهدئة التي تسعى إليها طهران مع واشنطن بخاصة في ظل الظروف القائمة للحرب الإسرائيلية على غزة، وهي تهدئة ترغب وتسعى إليها واشنطن كجزء من تأمين سياسة معلنة من قبل الإدارة الأمريكية تتلخص فكرتها في الحيلولة دون توسع الحرب واشتراك أطراف إقليمية فيها وترك الأمور لإسرائيل لكي تخرج حربها الحالية ضد الفلسطينيين (التي بدأت يوم السابع من شهر تشرين الأول/ اكتوبر الماضي 2023) بالطريقة التي تريدها مهما كان حجم العدوان الإسرائيلي ومهما كانت كلفته البشرية والمادية على الفلسطينيين فضلا عن النتائج التي يمكن أن يصل إليها ذلك العدوان.
فلقد ثبت مع مرور الزمن أن الشعارات التي ترددها إيران منذ بداية ما يسمى بقيام الثورة الإسلامية في إيران وتولي خميني إدارة إيران عام 1979 (قبل ما يقرب من 45 سنة)… عن التصميم في تحرير فلسطين والقدس، هي شعارات كاذبة وجوفاء… وهي ليست سوى جزء من مهرجان التسويق لنظامها داخل إيران وفي عموم الإقليم الإسلامي والعربي والتغطية على طبيعة المشروع الإيراني التوسعي الذي يهدف في النهاية إلى فرض إيران قوة إقليمية لها وزنها الدولي في رسم وتحديد سياسات الإقليم وتوجهاته، ما سيجعل إيران حاضرة على طاولة المكاسب الدولية والإقليمية (المشروعة وغير المشروعة) ولا يمكن تجاوزها أبدا.
وبغض النظر عن تلك الشعارات فأن طهران سارعت لإعطاء تعهداتها لواشنطن بعدم التدخل فيما يحصل من عدوان إسرائيلي على غزة وقد جاء ذلك على لسان كل المسؤولين الإيرانيين وعلى رأسهم خامنئي، على عكس ما كان البعض يعتقد (أو يروج) بأن إيران ستتدخل في هذه الحرب فورًا كونها حليف أساسي لحركة حماس (رأس حربة المقاومة الفلسطينية في غزة) والداعمة لها والممولة للكثير من أنشطتها (كما تشير الكثير من التقارير وكما عبر عنه البعض من قيادات حماس قبل طوفان الأقصى وبعده)… وأن صبر إيران محدود في هذا الجانب كون إحدى قواعدها المهمة والأساسية في المنطقة “حزب الله” يتواجد على الحدود اللبنانية الجنوبية وبتماس مع إسرائيل، وهو أكثر من يرفع شعارات المقاومة وتحرير فلسطين وانتظار فرصة الانقضاض على إسرائيل، ومن يراجع فقط خطب وتصريحات حسن نصر الله (الأمين العام لحزب الله) سيجد تلك الشعارات حاضرة بكثرة… بل هي الأساس في بناء تلك الخطابات والتصريحات… فكيف لا تتدخل إيران بسرعة في تلك الحرب؟… وهو سؤال كان على السنة كل الداعمين لإيران أو من يدورون بفلكها أو الموهومين بسياساتها وتوجهاتها، يواجهون أو يردون به على كل من يتحدث عن كذبة دخول إيران الحرب والوفاء للشعارات التي ترفعها منذ أكثر من أربعة عقود مضت.
إن في العودة السريعة إلى التاريخ القريب لما حصل بعد اندلاع طوفان الأقصى، يبدو ضروريا الآن ولا سيما فيما يتعلق بحزب الله الذي راح يروج لأيام عدة عن خطاب متوقع لأمينه العام حسن نصر الله يعبر عن موقف الحزب (المقاوم) من العدوان الإسرائيلي على غزة، وكان الإعلان عن قرب ذلك الخطاب يسوق بطرق أخراجية وتشويقية تجعل المتلقي يعتقد (وربما جازم) بأن هذا الحزب التابع لإيران الذي يروج بانه سيفها البتار سيدخل الحرب لا محال… وما هي إلا مدة قصيرة حتى خرج حسن نصر الله ليلقي خطبة طويلة ومملة… مملوءة بعبارات إنشائية جوفاء جعلت كل المستمعين يدركون أن أمين عام حزب الله يلعب دورا تمثيليًا لتسويغ عدم التورط في تلك الحرب، وان الشعارات الإيرانية عن فلسطين وتحريرها كانت جزءا من مسرحية إيرانية تروج لنظام يدخر في ايديولوجيته الكثير من العداء للعرب والمسلمين خلافًا لعباءة الإسلام الذي يرتديها ولخطابات الود وعباراته التي ترد على السنة موظفيه الدبلوماسيين التي تتحدث عن الرغبة في التقارب مع الدول العربية والعمل معها خدمة للصالح العام؛ والصالح العام هذا مفهوم خاص عند النظام الإيراني (يضعه في صندوق ما يسمى بالتقية) يتلخص في ضرورة تحقيق كل ما يخدم مشروع النظام ويمهد الطرق لتثبيت أركانه على حساب الآخرين وأولهم دول جواره من العرب وبخاصة العراق ودول الخليج العربي.
وبالعودة إلى التساؤل والدهشة عن أصرار الميليشيات في العراق بتوجيه ضربات (حتى وأن كانت غير مؤثرة) ضد القواعد التي تتواجد فيها قوات أمريكية (سواء في العراق أو في سوريا) بزعم أسناد المقاومة في فلسطين.. فأن كل المعطيات والوقائع كانت وماتزال تشير إلى أن إيران قد حسمت الأمور بشأن عدم التورط في الحرب التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين.. لذا فان كل أذرعها وبخاصة حزب الله في لبنان والميليشيات في العراق والحوثيين في اليمن، لابد أن تلتزم بأوامر الراعية إيران والسيد الإيراني.. فلماذا يحصل ذلك التحرش في العراق وفي اليمن؟
إجابة السؤال تقودنا إلى ما يعرف بفن التفاوض الذي يستهوي الفكر الإيراني بشكل كبير، بل أن الفكر الإيراني (قديمًا وحديثًا) مهووس بلعبة التفاوض حتى صار البعض يؤلف الكتب ويكتب البحوث عن البراعة الإيرانية في هذا الشأن، وهم يسردون فيه قصصًا عدّة لمفاوضات (غالبيتها ليست حقيقية أو أن جزءا كبيرا من تفاصيلها غير حقيقي) دخلتها إيران قديمًا وحديثًا سواء كانت سياسية أو جغرافية أو ثقافية أو اقتصادية أو غيرها.. و يرددون قصص عن تمتع إيران بطول نفس وحنكة في تلك المفاوضات (حتى إن البعض راح يحدثنا عن براعة الإيراني في حياكة السجاد وهي صنعة قديمة تحتاج أولا إلى الصبر الطويل دلالة على ما يتمتع به الإيراني من نفس وقدرة على المطاولة) كدليل على تلك البراعة الايرانية. ولأن إيران على هذا الحال لديها مشروعها التوسعي وامتيازاته التي تدركها وتسعى إليها.. وقد وظفت لأجله الكثير من الأدوات ومنها ميليشياتها في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وان لديها سعيها للحصول على السلاح النووي ودخول النادي النووي مع مجموعة دول تفرض سياساتها وإراداتها على الآخرين أو تمنع الآخرين من التحرش بها، لذلك حرصت إيران على ملفها النووي ليكون أداة مهمة (أيضًا) تؤمن به مشروعها التوسعي، بل وتفكر في جعله أداة لفرض مشروعها وهيمنتها على الآخرين، والذي قام الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2018 بتجميده من خلال انسحاب أمريكا من اعترافها بالاتفاق النووي المبرم مع إيران في عهد الرئيس الامريكي باراك أوباما، ومازال الجدل بشان إعادة ذلك الاتفاق إلى الوجود قائمًا مع أدارة الرئيس الحالي جو بايدن.. وعلى أساس ذلك لابد من حضور الحديث عن فن التفاوض الذي سيجر إلى لعبة المساومة التي يعشقها النظام الإيراني ويراها أداة للحصول على أكبر عائد من المنفعة والأرباح، وبما يجر الطرف الآخر إلى ما يعرف بمنطقة الاتفاق المحتمل (Zone Possible Agreement) أي الوصول إلى مجال يكون فيه الاتفاق مرضيًا لكلا طرفي المعادلة، التي يرمز إليها في إطار المفاوضات بالمختصر (ZOPA).
فـ (زوبا) هي عند النظام الإيراني استراتيجية مهمة جدا لتحقيق ما تصبو إليه من أهداف، فهو يمكن أن يوقف نشاطاته فيه ويضع ملفه في الدرج (حاليًا) ويدعي التنازل عن ذلك البرنامج مقابل أن تقر الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة إيران للمنطقة وأن شؤون دول المنطقة وتوجهاتها لا تُقر إلا بموافقة إيران أو بمشاركة فاعلة منها وأن الساحة الإقليمية تبقى مفتوحة لتحركات إيران من دون عوائق لذا فهي (المندوب السامي) الذي يرعى مصالح الدول الكبرى في المنطقة ويحقق قبل ذلك مصالحه.
ولما كانت المدة المتبقية لحكم إدارة بايدن ستنتهي مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي من المقرر إجراؤها يوم الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، وإدراك النظام الإيراني أن هذه الإدارة لن تكون فعالة وقادرة على فعل شيء أو حتى التوقيع على أي أتفاق بعد ستة أشهر من الآن (باعتبار إن الأشهر التي ستليها ستكون مخصصة ومزحومة ببرامج الانتخابات ومهرجاناتها).. بخاصة وأن إدارة الديمقراطي بايدن هي أكثر إدارة أمريكية ترتبط بعلاقات ومصالح علنية وسرية مع أركان عدّة من النظام الإيراني وهي الحريصة على أن تجنب هذا النظام أي صعوبات كالتي تعرضت لها خلال حكم إدارة الجمهوري دونالد ترامب (ومن بينها عقوبات اقتصادية وتراجع أمريكا عن الاتفاق النووي الذي أبرمته عام 2015 مع النظام الإيراني إدارة باراك اوباما). فالفرصة التي تتحدد بستة أشهر قادمة، يراها النظام الإيراني حتمية لدخوله بقوة في لعبة (عض الأصابع) مع واشنطن في محاولة لتحسين موقعها التفاوضي والدفع باتجاه منطقة التفاوض (زوبا-ZOPA) التي يمكن خلالها أن يعلن النظام الإيراني عن التخلي عن برنامجه النووي (ظاهريًا) مقابل الإقرار الأمريكي له بكونه القوة الإقليمية الأساسية وان العراق (بالذات) من دون الدول العربية الأخرى التي تتحكم فيها إيران حاليا (سوريا ولبنان واليمن) يجب أن يكون حصة إيران مع إمكانية أن يضمن النظام الإيراني استمرار وازدهار المصالح الأمريكية والغربية في العراق والمنطقة، بمعنى استمرار التخادم الإيراني الأمريكي الغربي الذي بدأ قبل احتلال العراق عام 2003 الذي مازال هدفه الأساسي هو أضعاف العراق، وقد تحقق جزء كبير منه خلال العقدين الماضيين.
وهكذا فأن استمرار وتصاعد عمليات ميليشيات الحشد في استهداف القواعد التي تتواجد فيها القوات الأمريكية، وتصاعد نداءات ودعوات إخراج القوات الأمريكية من العراق.. هو جزء من لعبة (عض الأصابع) بين واشنطن وطهران في محاولة لتسريع الاتفاق بينهم وإنهاء مرحلة (الحالة الرمادية) التي تعيشها علاقتهم حاليًا.. فهل ستنجح طهران في محاولاتها.. أم أن على إيران تهيئة ألعاب جديدة تستعملها في التعامل مع الإدارة الأمريكية القادمة؟

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى