أخبار الرافدين
كرم نعمة

عندما يتذرع الطائفيون باللاطائفية!

من السهولة بمكان تخيّل التهكم العراقي على مزاعم رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، عندما كذّب وجود محاصصة طائفية في العراق! وزعم بشكل فج “وجود محاصصة حزبية تحت عنوان المكوّن”!
ومن السهولة بمكان أيضا التوصل إلى نتيجة مفادها، إن لا أحد من العراقيين “بما فيهم الطائفيون” عوّل على كلام الكاظمي. ليس لأنه لا يمكن أن يدافع عن هذه الفكرة الكاذبة، بل لأن مجرد التحاور بشأنها سيدخل المرء، دوامة تصديق الأكاذيب المتصاعدة والمستمرة في العراق منذ عام 2003. فالتذرع بعدم وجود طائفية، فكرة واهنة ومنفلتة، يدرك كذبها الكاظمي مثل واضعي أسس الطائفية من أعضاء مجلس الحكم المنحل سيء الصيت. فالكاظمي اختير في منصبه وفقا لطائفته حصرا، وليس لأي سبب آخر متعلق بالكفاءة أو الوطنية. والدستور الذي سقط ميتا قبل أن يولد كتب بنفس طائفي فج، لذلك لا يمثل شيئا للعراقيين الوطنيين، أنما يمثل من كتبه حصرا.
كنت آمل من الزملاء الصحفيين الحاضرين في مؤتمر الكاظمي، التبرع بتحديد مباني الوقفين السني والشيعي في بغداد، وسؤال الكاظمي عما إذا كانت لدينا وزارة للأوقاف والشؤون الدينية منذ عام 2003، كي نصدق ان النظام الهش الذي بني بعد الاحتلال ليس طائفيا؟
يبدو لي أن الكاظمي يدرك في قرارة نفسه، وهو نتاج سياسي لمحاصصة طائفية. أن الطائفيين من الميليشيات ولوردات القتل يحيطون به في المنطقة الخضراء، وقادرون على لجمه عندما يتجاوز وصية المرشد الإيراني علي خامنئي لقادة الميليشيات والأحزاب الطائفية “وحدة الطائفة فوق أي اعتبار وطني عراقي آخر”.
لا تؤمن غالبية العراقيين بإجابات الأحزاب الطائفية الحاكمة بما فيها الصحوات ومدعي تمثيل سنة العراق في العملية السياسية، منذ احتلال بلادهم عن طبيعة اختلافهم الطائفي، وإن تطوعت نسبة منهم في ميليشياتها، إلا أن العمل والانتماء للأحزاب الطائفية والصحوات لا يفسران إلا وفق الأنانية الشخصية والمصلحة الضيقة لبعض العراقيين، ولا يمتّان بصلة لمفهوم الوطنية.
كلام الكاظمي نداء حماسي يعيد التفكير في حقيقة الطائفية وممارساتها داخل المجتمع بعد احتلال العراق عام 2003. مع ذلك لا يغيب السؤال المشروع بكون الكاظمي نفسه نتاج تلك القوى التي جعلت العراق ساحة لتصفية الحسابات. لكن حقيقة القول تدفع إلى قراءة تصريحه وفق التقويم المفرط في التفاؤل، لأنه فهم يتّسق مع غالبية العراقيين، ما كانت لتحدث حرب طائفية لولا وجود أحزاب طائفية.
يمكن دفع البندول العراقي الى ذروته الأخرى عندما يتعلق الأمر بمفهوم الطائفية، لنكتشف أنه لم يحدث أن مارس العراقيون القتل على الهوية كما حدث بعد احتلال بلادهم. كانت الدموية العراقية تعزى إلى أسباب سياسية وحزبية في الصراع على السلطة. ولم يحدث أن مارست الأحزاب والقوى السياسية العراقية قبل عام 2003 قتلا على الهوية.
وعندما نعود إلى الخلافات داخل بنية المجتمع، يمكن إرجاع عمليات القتل والصراع إلى التخلف العشائري والتعصب الشخصي والثأر، وهي أمور عادة ما تحدث دون أن يكون الخلاف بين الطوائف سببا لها.
لم يكن بمقدور الأحزاب الطائفية التي صعدت إلى السلطة في زمن شاذ من تاريخ العراق بعد عام 2003، أن تمدّ نفوذها في دولة منهارة وشعب يعيش هول صدمة احتلال وطنه من دون رفع من مستوى المنسوب الطائفي الذي بنيت عليه أساسا فلسفة هذه الأحزاب، وإلا لتراجع دورها دون أن يكون بمقدورها الوصول إلى ما وصلت إليه اليوم.
كذلك صُنعت النماذج القبيحة التي لن تغادر ذاكرة العراقيين بأسمائها وأشكالها، ضمن قائمة طويلة من لوردات القتل، وهي تمارس أبشع أنواع المذابح على الهوية، فيما وجدت لها ذرائع سياسية تتمثل بتصريحات معلنة. علينا أن نتذكر هنا “نظرية” حنان الفتلاوي المطالبة بقتل سبعة سُنة مقابل كل سبعة قتلى من الشيعة من دون أن ننسى تركيز نوري المالكي على خرافة “مختار العصر” وإحياء معادلة ميتة عن جيش الحسين وجيش يزيد! أضف إلى ذلك الهراء الطائفي الذي كان يصدر عن إبراهيم الجعفري.
كانت الأموال الفاسدة التي حصلت عليها تلك الأحزاب مصدرا يدير عجلة الطائفية بسرعة مخيفة لكسر البناء المجتمعي. وهنا لا يمكن أن نغضّ النظر عن دور المرجعيات الدينية في تأجيج الصراع أو على الأقل ممارسة صمت سلبي لتحقيق مصالحها الأنانية غير الوطنية. وفي خضم تلك المحرقة كان العراقيون يعيدون اكتشاف وتعريف وعيهم الوطني المنهار، متسائلين هل كل تلك الغربان المتمركزة في المنطقة الخضراء وأقبية المراجع المعتّمة والمراقد، تمثل حقيقة الوعي العراقي المتحضر؟
كان اللجوء في الإجابة على هذا السؤال المرير، إلى التاريخ القريب والأبعد إلى حد ما، في نوع من العلاج الافتراضي فيما الدماء تسيل على أرض الرافدين.
تلك السنوات كانت فرصة الأحزاب الطائفية في الصعود والاستحواذ على ما تبقى من مفهوم الدولة، في مقابل دفع المزيد من التشكيلات والميليشيات الطائفية، فجيش المهدي نتاج مرحلة انهيار سياسي واجتماعي مريع في العراق مثله مثل فيلق بدر والعصائب والصحوات. وحتى بعد أن استبد بها الحال كان لا بد من الحشد الشعبي بمساعدة فتوى الجهاد الكفائي للسيستاني بذريعة مقاتلة الإرهاب حينما جعلوا من تنظيم داعش بعبعاً على وشك ابتلاع العراق.
إذا كان بمقدورنا قراءة تصريح الكاظمي السابق عن حقيقة عدم ترسخ الطائفية كمفهوم سياسي في طبيعة العراقيين الغالبة، فإنه وفق نفس التقويم علينا الاعتراف بوجود دولة طائفية عميقة داخل الدولة الوطنية “إن وجدت أصلا” في العراق.
وفي حقيقة الأمر لا يمثل “سكان” هذه الدولة الطائفية العميقة، إن آمنوا بها أصلا، مثقال ذرة من الوطنية السوية للعراقي. مع ذلك فهي قائمة وفق مصدر قرارها الإيراني وإبداء الولاء لمرجعية خامنئي والخضوع لاستراتيجية سياسية يديرها الحرس الثوري الإيراني.
إلا أن صرخة العراقي الشهيرة في ساحة التحرير إبان ثورة تشرين “القصة قصة وطن لا طائفة، نريد وطنا” ستبقى ماثلة للتاريخ، كلما أُتهم العراقيون بالطائفية. ويمكن استعادتها كلما ارتدت الغربان الطائفية ربطات العنق! وذلك يكفي لقراءة تصريح الكاظمي الأخير بأمل مفرط عن وطنية العراقيين وطائفية الأحزاب.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى