أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حق القول

في الطريق إلى نظام دولي جديد (5)

بعد أن أجبرت الولايات المتحدة الأمريكية على الانسحاب من فيتنام وإنهاء عدوانها على ذلك البلد الصغير بعد نحو ثماني سنوات “1964-1972” كلفت واشنطن خسائر مادية وبشرية هائلة أكدت هزيمتها المرة التي باتت واضحة وجلية أمام أنظار المواطنين الأمريكيين.
أيقن الشعب الأمريكي عجز دولته وهي أكبر دولة في حسابات القدرات العسكرية والاقتصادية في إحراز النصر على قوى صغيرة ناشئة إضافة إلى مواجهة الأمريكيين لإدانة أخلاقية لدولتهم في سائر أنحاء العالم، وقد أدى ذلك بدوره إلى ظهور المزيد من الصعوبات أمام حركة الاقتصاد الأمريكي الداخلي الذي يعتمد في جزء أساس منه على حركة الاقتصاد الخارجي الذي بدأ يعاني بشدة من معارضة وقيود فرضتها عليه الدول الرافضة للعدوانية الأمريكية.
لقد كانت مرحلة السبعينات من القرن الماضي من المراحل الصعبة جدًا على عموم السياسة الأمريكية “داخليًا وخارجيًا” حتى أن الكثير من المراقبين والمهتمين بشؤون السياسة الدولية راحوا يعتقدون أن التحكم بالنظام الدولي بات شأنًا خاصًا بالاتحاد السوفيتي فقط وأن الولايات المتحدة تحتاج إلى عقود عديدة للنهوض من واقع هزيمتها في فيتنام والتي جرت عليها هزائم وخسائر كبيرة جدًا في ميادين أخرى، غير أن المؤسسة الأمريكية الحاكمة كانت مشغولة في محاولة محو آثار تلك الهزائم من نفس وعقل المواطن الأمريكي خاصة تلك التي جرت في فيتنام ومعالجة الأزمات كالبطالة والتمييز العنصري والجريمة المنظمة التي بدأت تظهر بشكل واسع بآثار ملموسة على المجتمع الأمريكي الذي بدأ يعاني أيضًا من شعور باللامبالاة وعدم الثقة بالمؤسسات الأمريكية الحاكمة التي تدير شؤون البلاد بصفتها نتيجة طبيعية للكذب والتزييف الذي مارسته تلك المؤسسات ومن بينها وسائل الدعاية والإعلام الأمريكية فيما يخص مغامرة فيتنام، إذ كانت تصور الحال عكس ما كان عليه فعلًا لكنها اختارت “مضطرة” الصمت حين بدأت جثث الجنود الأمريكيين تصل بالمئات كل يوم من فيتنام.
وعلى أساس هذا الحال كان جوهر السياسة الأمريكية في عقد السبعينات من القرن الماضي، يتمحور على الصعيد الخارجي في السعي لإيقاف تدهور مواقع الولايات المتحدة، ومحاولة تغيير ميزان القوى لصالحها مرة أخرى بعد أن مال هذا الميزان لصالح الاتحاد السوفيتي، في ظل أوضاع كانت فيها الشكوك تكبر إزاء الإمكانات السياسية للولايات المتحدة بعد هزيمتها العسكرية والسياسية في فيتنام بشكل واضح الأمر الذي أثر في قناعات حتى حلفاء أمريكا خاصة في أوروبا الغربية من إمكانية وقدرة الولايات المتحدة على توفير الحماية والضمانات لحمايتها من أخطار الاتحاد السوفيتي خاصة “النووية”.. كما أدى هذا التغير في الميزان الاستراتيجي إلى ظهور سعي أوروبي – غربي وياباني للتخلص من الوصاية الأمريكية الاقتصادية “بشكل خاص” ودخول عالم التنافس الشديد مع أمريكا على أكثر من ساحة اقتصادية، في الوقت الذي شهدت فيه تلك الفترة ظهور ما عرف بأزمة الطاقة نتيجة ارتفاع أسعار النفط والمعادن وغيرها من المواد الخام، وكذلك مقاطعة الدول العربية النفطية “خاصة العراق والمملكة العربية السعودية” للولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية ردًا على مواقفهم المنحازة “لإسرائيل” خاصة إبان حرب تشرين عام 1973 والمحاولات الأمريكية والغربية التي ظهرت بشكل مكشوف لدعم خطط “إسرائيل” في السيطرة على مدينة القدس العربية وتحويلها إلى عاصمة لذلك الكيان.
الاستراتيجيون الأمريكيون من خلال رؤيتهم المتفحصة لإفرازات ونتائج تلك المرحلة راحوا يجهدون أنفسهم لتصميم وصناعة “أقنعة” جديدة تستطيع تسويق سياسة أمريكية يمكنها التعايش مع ذلك الواقع من دون إثارة شكوك الآخرين، وتستطيع تحقيق هدف تغيير ميزان القوى من جديد لصالح الولايات المتحدة الأمريكية بما يمكنها من العودة السريعة إلى مقعد الند للقطب الدولي الآخر الاتحاد السوفيتي في إطار النظام الدولي الحاكم للعالم.
وعلى أساس هذا التوجه، بدأت السياسة الأمريكية رسم خطوطها تجاه أوروبا الغربية التي ركزت على تنمية شراكة جديدة وناضجة مبنية ليس على أساس حاصل جمع مصادر القوى في هذه الدول مع القوة الأمريكية حسب، بل على أساس التسليم الأوروبي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لهذه المصادر وتوجيهها لتصب في صالح الأهداف والمصالح الأمريكية “طبعًا” وكان للسياسة الأمريكية في استغلال وسائل الإعلام والدعاية أثره الكبير في جعل بلدان أوروبا الغربية تتعاطى بإيجابية مع الطروحات والخطط والتوجهات الأمريكية فقد عمدت أبواق الدعاية والإعلام الأمريكية إلى إثارة الفزع داخل المعسكر الأوروبي الغربي من القدرات التدميرية “النووية” للاتحاد السوفيتي، في الوقت الذي تحركت فيه الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1973 وحتى عام 1990 لإقناع حلفائها الأوروبيين الغربيين بضرورة إقامة قواعد لصواريخ مثل “برشنغ وكروز” في أراضيهم لما لهذه الصواريخ “وفقًا للتصور الذي طرحه الأمريكيون” من فاعلية استراتيجية مؤثرة في تدعيم نظم الدفاع في أوروبا الغربية ضمن ترتيبات حلف شمال الأطلسي “ناتو” NATO، باعتبار أن هذه الصواريخ الأمريكية هي الوحيدة القادرة على التأثير الجدي والمدمر ضد الاتحاد السوفيتي وأن دول أوروبا الغربية مجتمعة لا تملك سلاحًا أفضل من هذه الصواريخ في قوتها وتأثيرها.
ولم يكن هذا الطرح معزولًا عن ترويج أمريكي يقول إن الاتحاد السوفيتي بدأ خططه لتوسيع عمليات تركيب صواريخ “أس أس 20″ الموجهة ضد أوروبا الغربية وأن هذه الصواريخ التي يبلغ مداها “4500 كيلومتر”، يستطيع أي واحد منها تدمير عاصمة أوروبية غربية مثل لندن أو باريس أو روما، تدميرًا كاملًا كون هذه الصواريخ “وفق الرواية الأمريكية” محملة بثلاثة رؤوس نووية تصل قوتها التدميرية مجتمعة إلى ما يعادل 30 قنبلة ذرية من النوع الذي ضربت به أمريكا مدينتي هيروشيما ونكازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية، وليس من سبيل إلى مواجهة ذلك إلا موافقة كل دول أوروبا الغربية على نشر شبكة من القواعد والصواريخ الأمريكية على أراضيها كجزء من صناعة حالة “الرعب المتبادل” مع الاتحاد السوفيتي ولم تكن هذه الخطة بكل تفاصيلها إلا قناعًا أمريكيًا لجعل أوروبا تدين بالعرفان ثم الولاء لأمريكا وترد لها الجميل من خلال المساهمة الفاعلة في دعمها للعودة إلى مركز الصدارة العالمية في إطار النظام الدولي . والحديث مازال فيه الكثير.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى