أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حق القول

في الطريق إلى نظام دولي جديد (6)

قبل أن يدخل العالم العقد الأخير من القرن العشرين كان الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قد بلغ مرحلة أدهشت الكثيرين وغيبت قدرات عقول عديدة على فهم ما يحصل واستقراء ما سيحصل، فقد انهار الاتحاد السوفيتي وسقطت قلاع “الشيوعية” وأعلن فجأة عن نهاية ما كان يعرف بالحرب الباردة وعادت صورة العالم وهو يجتاز عتبة السنوات الأخيرة باتجاه القرن الحادي والعشرين لتتشكل من جديد لكن بإرادة “الرأسمالية” هذه المرة تخلصت زعيمتها “واشنطن “من نظام القطبية الثنائية وأعلنت تفردها بزعامة العالم.وبين مصدق ومكذب ومندهش وبين يائس ومتفائل وبين خائف ومطمئن. كانت الأسئلة تتوالد: هل انتهت الاشتراكية أم إنها تبعث من جديد؟ هل هو انهيار اقتصادي وإخفاق أيديولوجي قد ألم بالتجربة السوفيتية بشكل خاص والاشتراكية بشكل عام؟ أم هو إحياء أو محاولة للتجديد وبعث الروح بمفاصل شاخت وتعاني أمراض الشيخوخة والإهمال؟
أهو حقًا انتصار للرأسمالية كما تقول زعيمتها الولايات المتحدة الأمريكية أم محاولة لإعادة البناء أو الهيكلة “البرويسترويكا” التي أطلقها آخر زعماء الاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشيف الذي سبق أن قال وهو يسوغ لمشروع تفكيك الاتحاد السوفيتي “عندما جئت للسلطة وجدت الإناء السوفيتي على النار يغلي وتصورت أن المطلوب هو رفع الغطاء عن الإناء لتنفيس البخار لكن ما رأيته داخل الإناء كان أصعب مما تصورت ولم يكن بمقدوري إعادة الغطاء والتظاهر بأنني لم أسمع ولم أر شيئًا لقد وجدت من واجبي أن أصارح الشعب السوفيتي بالحقائق وأن أدعوه للمشاركة في مواجهة الخطر”.
فهل هي النهاية الحتمية التأريخية للإمبراطورية السوفيتية وفقًا للتفسير البيولوجي الذي يؤكد أن الدول مثل البشر تولد وتنمو وتكبر ثم تشيخ فتنهار وتموت بالأمراض المزمنة أو بالسكتة القلبية أو الدماغية؟
الأسئلة كانت كبيرة وخطيرة بمستوى خطورة وأهمية الانهيار، وما زاد في أهميتها وخطورتها أنها طرحت في خضم أحداث تاريخية تكونت وأخرى مازالت في طور التكوين فيما كان العالم يستعد لمغادرة القرن العشرين قرن الحروب العالمية والثورات الكبرى سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وعلميًا وثقافيًا.. .
لقد كان السؤال الأساس في كل ما حصل والذي مازالت الإجابات عليه قاصرة عن حسم الموضوع بعد أكثر من ثلاثة عقود على انهيار الاتحاد السوفيتي، يتردد في صيغتين الأولى: لماذا وكيف انهار الاتحاد السوفيتي ولصالح من؟ والثانية: ماهي العوامل التي أدت إلى زعزعة نظام القطبية الثنائية وفتحت الباب واسعًا لعدم الاستقرار وتفجير صراع الهيمنة؟
الحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي ومع وصول إدارة رونالد ريغان إلى رأس السلطة، بدأت تصريحات البيت الأبيض تركز على ضرورة سيادة السلام العالمي والتفاهم بين الشرق والغرب ومساهمة “القطبين” بشكل مباشر وملموس في تخفيف حدة التوتر.
وقد كان كل ذلك جزءًا من مستلزمات الترويج والتسويق “لقناع” أمريكي جديد يمنح واشنطن فرصة التقاط الأنفاس بعد الكثير من النكسات والإخفاقات التي صاحبت المسيرة الأمريكية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، وإمكانية تنفيذ خطة تهدف إلى تغيير عوامل التوازن ونسب القوى المتحكمة بالنظام الدولي لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، لكن بطريقة هادئة ومتخفية خاصة أن الاتحاد السوفيتي كان في تلك الفترة قد ارتكب خطأ كبيرًا على الساحة الدولية، إذ قام باحتلال أفغانستان والتورط في مشاكل سياسية واقتصادية وعسكرية كان من الممكن جدًا تفاديها، الأمر الذي مكن واشنطن من تقوية مواقعها على الساحة الدولية فراحت تبادر إلى التعاطي مع موسكو من موقع قوة نسبية. في الوقت الذي كان هذا المشهد يجعل الكثير من المراقبين يعتقدون أن الاستقرار النسبي في نظام القطبية الثنائية الذي كان قائمًا، هو استقرار يدعو إلى التفاؤل لعدم وجود أرضية صالحة لنشوء العوامل التي يمكن أن تزعزع هذا الاستقرار، معتمدين في ذلك على:
أولًا: إن إخفاق أحد القطبين في لعب دوره التوازني في النظام الدولي القائم، سيؤدي إلى نشوء خطر كبير وأن أي تحول بهذا الاتجاه لا يمكن أن يحصل مادام القطبان يحافظان على بقاء التوازن قائمًا في نظام الردع النووي.
ثانيًا: إن ظهور قوة ثالثة في النظام الدولي سيشكل خطرًا كبيرًا سيؤدي إلى انفلات التوازن الثنائي القطبية وبالتالي ستكون العواقب كبيرة يدركها الجميع، لأن الذهاب إلى استعمال القوة سيكون خيارًا متاحًا جدًا.
ثالثا: إن النزوع إلى عالم بأطراف متعددة وانتشار الأسلحة النووية مع وجود عوامل تؤدي إلى اندلاع النزاعات بين الدول، يمكن أن يؤدي إلى تورط الدول العظمى في مواقف قابلة للانفجار إلى حد كبير بينها.
رابعًا: إن خطر فقدان السيطرة على التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية هو أمر قائم وإمكانية حصوله والانجرار إلى فوضى واضطرابات هو أمر يزداد احتماله كلما حصل خلل في توازن قوى النظام الدولي.
إضافة إلى كل هذه العوامل، كانت هناك أسباب تدعو للتفاؤل في إمكانية أن الأرضية الصالحة لنشوء العوامل المزعزعة للاستقرار النسبي في نظام القطبية الثنائية غير متوفرة، ومنها:
1- أن النظام الدولي في تلك الفترة تميز بمرونة ملحوظة، وأن الإطار السياسي للنظام الدولي المتكون من كتلتين مركزيتين ومحيط موزع بين الاثنتين بقي متماسكًا بشكل جوهري.
2- عدم التئام الصراعات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية فالتئامها كان في الماضي أحد الأسباب الأساسية التي سبقت حروب الهيمنة.
3- عدم تعرض أي من القوتين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة إلى حالة من التمزق بسبب الصراعات الطبقية أو القومية العنيفة، فقد كان هناك نوع من الاستقرار المحلي على ساحتيهما، مقارنة بالأوضاع التي كانت سائدة قبل الحربين العالميتين.
4- تقاسمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مصالح اقتصادية معينة لكل منهما خلافات اقتصادية عديدة مع حلفائه الاقتصاديين والسياسيين لذلك فأن هذا التمازج في المصالح والنزاعات هو بحد ذاته مصدر استقرار.
فهل كانت كل هذه العوامل والأسباب قابلة للصمود على أرض الواقع وكانت حساباتها صحيحة؟ الحديث مازال فيه الكثير.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى