أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

ميليشيا الشعب العراقي!!

الميليشيا أو التنظيم المسلح مثلما تصفه الأدبيات العسكرية والسياسية، هو مجموعة من قوات غير نظامية يعملون عادة بأسلوب حرب العصابات، والبعض من هذه الميليشيات تظهر وتختفي تبعًا للطلب فهي مثل “الوجبات السريعة” التي تخضع لطلب الزبائن، بمعنى أنها تعمل لدى مقاولين يحركونها لتفعل ما يريده الزبون وفقًا لحجم المبلغ الذي يدفعه والمكاسب المتحققة منه.
وفي العراق منذ احتلاله عام 2003، يزدهر مصطلح الميليشيات ويكبر ويتغول مع تناسل العصابات والجماعات المسلحة وانشطارها حتى صار العراق مصنعًا متميزًا لأنواع الميليشيات التي باتت أكبر من الحكومة، بل هي من تشكل الحكومة ومن ترعاها وتحدد لها سياساتها واتجاهاتها وخطابها وشكل من يتولى الواجهة فيها.
وإذا كان العراقيون اليوم أمام حالة من الترقب والتحسب من إمكانية أن تنطوي الساعات القادمة أو الأيام والأسابيع القليلة القادمة على صدامات ومواجهات بين الميليشيات بعد أن ضاقت الساحة عليهم “كما كان متوقعًا” وبات كل طرف يرى أنه الأصلح للقيادة والمرجعية والأجدر بالحصة الأكبر من مكاسبها، ولعل مشاهد تظاهرات أتباع التيار الصدري التي تتابعت خلال الأسبوعين الماضيين ودخول أعداد كبيرة منهم إلى المنطقة الخضراء والاستقرار في مبنى البرلمان، هي جزء من صراع “عض الأصابع” الذي قد يدفع إلى خيارين: إما أن يضطر أحد الطرفين إلى الاستسلام “مجبرًا” للطرف الآخر أو أن يترك للغة السلاح خيار الحسم “وكل ذلك مرهون طبعًا بضوء أخضر من الجارة إيران الراعي الرسمي”.
ومهما كان شكل الخيار فإن من يدفع الثمن الأكبر هو العراق وشعبه، فهما منذ عشرين عامًا يتقاتل من يحكمونهما باسميهما وفوق أجسادهما ولا أحد منهم يهمه ما يحصل لهما. واليوم إذا تضيق الساحة على المتصارعين، يذهب بعض أطرافها إلى الدعوة إلى ما يعرف بالحوار الوطني، وهي “نكتة” طالما ترددت على مسامع العراقيين لكثرة ما تلهج بها ألسنة أحزاب وميليشيات وشخصيات العملية السياسية كلما ضاقت بهم الأحوال، وكلما أرادوا شراء وقت جديد لعمليتهم السياسية واستمرار نهبهم وتغطية فسادهم، حتى صار العراقيون ينقلبون على ظهورهم ضحكًا كلما ذكرت “نكتة الحوار الوطني” أو “الحوار السلمي” على حد وصف فرحان حق المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي أدلى بدلوه هو الآخر في إطار لعب دور “رجال الإطفاء”، الذين استشعر الحاجة إليه زعيم ميليشيا بدر هادي العامري فدعا بدوره إلى ما سماه الحوار الوطني الجاد لإيجاد مخرج مما وصلت إليه العملية السياسية، وهو ما دعا إليه “أيضًا” حيدر العبادي بالقول إن الحوار ينقذ من الفتن والمنزلقات، ومثله فعل عراب العملية السياسية إياد علاوي وقبله نوري المالكي “صاحب أشهر تسريبات تدل على عمق أزمة قوى العملية السياسية واختلافها” إذ قال إنهم بحاجة لحوار جاد بعيدًا عن المؤثرات الخارجية، ومصطفى الكاظمي الذي قال: يجب أن نجلس ونتفاهم وأتبعها بالجملة الأثيرة “من أجل العراق والعراقيين”، فيما سارع رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي للدعوة إلى ما سماه لقاءً وطنيًا عاجلًا لإنجاز حوار وطني فاعل ومسؤول.. ولم يفوت “طبعًا” من يدعي أنه رئيس جمهورية العراق وحامي دستوره “الذي لا يراه كسيحًا وهو الكسيح منذ أن تم إقراره عام 2005” هذه الفرصة ليقول: يجب تغليب لغة العقل والحوار، وأرفق بها جملة من نكتة الحوار الوطني بالقول: ونقدم المصلحة الوطنية العليا فوق كل اعتبار، ونؤكد الحاجة الملحة لعقد حوار وطني لضمان حماية أمن واستقرار العراق وترسيخ السلم الأهلي.
فأي نكتة أكثر عمقًا وأكثر إضحاكًا للعراقيين من نكتة “الرئيس” هذه؟!!
فالحوار الوطني “كما تقول الأدبيات السياسية” هو عملية تشاور متبادلة هدفها تحقيق التفاهم المشترك عبر الاستماع الفعال والجاد لكل الأطراف والأخذ بطروحاتها، وتبادل الرأي في القضايا المهمة.
والأساس في هذا التعريف هو الجزء الثاني منه الذي يقول إن هذا التبادل في الرأي “الحوار الوطني” يتم بين “مختلف فئات الشعب”. فهل تنطبق طلباتهم للحوار الوطني على حقيقة الحوار وجوهره؟ فأين الشعب من كل هذه القوى المتصارعة على المكاسب التي تعلن أغلبها بشكل فج وصادم أنها بندقية للإيجار وأن ولاءها الأول لغير العراق فيما تتبجح بأن لها حقًا في أموال العراق وكل ما فيه. وأن من تستهدفه إذا ما اضطرت هو شعب العراق دفاعًا عن قوى ورموز خارجية. فهل يستوي مفهوم الحوار الوطني مع هؤلاء؟
والسؤال الأهم هنا: هل يستطيع شعب العراق أن يكون طرفًا في مثل هذا الحوار؟ وقبل ذلك هل يسمح له بلعب هذا الدور والاستماع من الآخرين لرؤيته ومطالبه في حياته وما يمتلكه؟
الحقيقة أن شعب العراق ازاء “نكتة” الحوار الوطني، ومادام يعرف أن الجيش والقوى الامنية مشتتة الانتماء ولا تقف معه.
فلابد أن يستجمع قواه ويترك الضحك جانبا ويذهب لتشكيل ما يعرف بـ “مليشيا الشعب” وعندها سيكون للحوار نكهة شعبية، بعد ان يستطيع الشعب التظاهر من دون ان يخشى على نفسه من سلاح طرف ثالث أو رابع أو مليون، ويستطيع حينها أن يعبر كل الجسور دون ان توقفه “صبات” أو حواجز أو قوى أمنية أو ميليشياوية “مقنعة أو مكشوفة” فيدخل المنطقة الخضراء أو الزرقاء أو أيا كان لونها من دون اذن مسبق، فيما تصطف على جانبي طريقه القوى العسكرية والامنية والميليشياوية لتؤدي له التحية وتقدم له ما يحتاج من خدمات وتسهيلات، في الوقت الذي تتسابق فيه كل الزعامات “التي تدعي أنها سياسية جزافا” وغيرها من الزعامات العشائرية لتقديم فروض الطاعة وتوجهات الحذر والالتزام لجماعاتها من أمكانية الاساءة الى متظاهري الشعب خشية طبعا من زعل “ميليشيا الشعب” ومن “خدش أحاسيسهم” وهم يفترشون شوارع المنطقة الخضراء ويقيمون في ابنيتها ما يحلو لهم من مجالس “الأتراح” و”الأفراح”.
فهل يفعل الشعب العراقي ذلك ويسرع بتشكيل “ميليشيا الشعب” ليمسح كلمة “نكتة” التي تسبق دائما جملة “الحوار الوطني”؟

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى