أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

هل سنقولها مرة أخرى “… مثل ما رحتي مثل ما جيتي”؟

في مقدمته الشهيرة، يعتبر العالم العربي ابن خلدون أن الخضوع والانقياد من أول الأسباب التي تؤدي إلى النكوص والهزيمة، فالمذلة والانقياد “حسب تعبير ابن خلدون” دليل العجز عن المدافعة والمطالبة. وإزاء ما يحدث اليوم في العراق نجد قول ابن خلدون حاضرًا يدل على جوانب مهمة من تفسير ما يحدث ومآلاته ومن لا يبحث عن جذور الأحداث وتفسيراتها واتجاهاتها وأهدافها، يجد نفسه خاضعًا لتفسيرات الآخرين وتسويغاتهم، الأمر الذي قد يجره إلى أحكام خاطئة، ولعل البداية تكون بإقرار أن ما يحدث اليوم في العراق ليس مقطوعًا عن جذوره التي غرست يوم احتلال العراق عام 2003.
وهكذا، فإن أسئلة كثيرة تتوالد منذ أن أعلن مقتدى الصدر بيانه الداعي إلى تغيير العملية السياسية وكتابة دستور جديد وتغيير الانتخابات “قانونًا وآليات”، فيما كان أنصاره يدخلون المنطقة الخضراء “من دون عناء أو ممانعة” والتي أطلق عليها تسمية “تحرير الخضراء”.. أسئلة جدية تبحث عن أجوبة لعبث يدفعك إلى حالة مؤلمة من القرف الذي يضطرك البعض إليها، وهم يعرفون جيدًا أن الأسباب التي يقدمونها لتصرفاتهم غير مقنعة بشكل واضح؛ إذ لم يتمكنوا من تقديم مسوغات تدعم ما يقومون به “وقد سبق أن قاموا بمثله سابقًا” الأمر الذي يدفعك لأول وهلة للسؤال: لماذا إذن يفصحون عن العبثية بهذه التعابير والتصرفات والأفعال وكأنها أمر عادي ومسلم به “على حد وصف الفيلسوف الأمريكي المعروف توماس ناغل الذي وضع كتابًا عام 1937 يحمل عنوان ماذا يعني هذا كله؟ تحدث فيه عن أمور عديدة في مقدمتها الأخلاق وفكرة الصواب والخطأ والإرادة الحرة والعدالة”.
فأمام عبثية تعمل على الإطاحة بفكرة أن يقوم الإنسان بالثورة ضد الظلم والقهر والخراب لابد أن تجد الوطن في حالة من الخطر الشديد الذي يهدد كيانه بالزوال وهو يفقد وسيلة إنقاذه، في ظل استفحال حالة المذلة والانقياد التي أعتبرها ابن خلدون كاسرة لنفس الإنسان ومحدثة لعجز في المدافعة والمطالبة. وهي حالة تقود إلى أسئلة تبحث عن أجوبة عما تراه العين ويختبره العقل من عبثية تظاهرات التيار الصدري وخصومه ومن يؤيدون هؤلاء أو أولئك أو ممن يعتقدون أنهم يقفون على الحياد ويدعون إلى مؤتمرات الحوار الوطني، في ظل غياب الوطن أساسًا وتلك قمة العبثية والاستهتار.
قد لا يقبل البعض هذا الكلام ويجده قاسيًا، لكن واقع الحال يؤكد أنه ليس إلا محاولة لتفسير ما يحصل وفهم وتبويب خطوة التيار الصدري، فيما لو كانت خلاصًا للعراق وعودة عن طرق الباطل الذي ساروا فيه لعشرين عامًا وكانوا فيه جزءًا أساسيًا من كتلة الخراب والفساد والعبث بالوطن والمواطنين، أو إعادة لمسلسل طالما شهد أهل العراق حلقاته وسئموا منها؟ ولعل أول ما نذكره بأن وضع مشروع وطني شامل للنهوض بالبلاد يجد فيه العباد أنفسهم، من شأنه أن يشحذ الهمم ويحث على العطاء والتضحية في سبيل تحقيقه واقعيًا، من خلال تبني هذا المشروع لعلاج ناجع لكل القضايا الملحة في حياة الناس في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين والعدل والقانون وكل أسباب النهوض، في شكل نقاط واضحة أشبعت دراسة وتمحيصًا من قبل المختصين بجداول زمنية تشكل إستراتيجية لبناء الدولة في المرحلة الحاضرة والقادمة، بحيث يعلم كل مواطن موقعه ومهامه وطبيعة ما هو مطلوب منه وما يعود عليه. فهل وجدنا شيئًا حتى ولو بسيطًا من ذلك في خطابات من يدعون الثورة أو حتى في “قصقوصات التغريدات” التي تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي من قادة هذه “الثورة” ؟
وإذا ما ذهبنا إلى الخطاب “مفترضين وجوده” الذي استمعنا إليه طوال الأيام الماضية من عمر ما يزعم أنها ثورة عبر “الهوسات” و”الأناشيد” و”الأشعار” و”التصريحات”، فإننا لابد أن نصل “منطقيًا وعقليًا” إلى نتيجة واحدة تؤكد أن التخبط وعدم وضوح الأهداف والتوجهات هو المظهر الحقيقي لما يحصل، وأن إمكانية انفضاض كل ذلك من دون أن يحصل العراقيون “لا على السلة ولا العنب” تبدو مؤكدة، وهم الذين “شاءوا أم أبوا” دفعوا وسيدفعون الثمن وتحملوا وسيتحملون تداعيات ما حصل ويحصل.
فالثورة لا يمكن أن تشرع بالإعلان عن نفسها بشكل عملي من دون أن تكون خطواتها محسوبة سلفًا وتأتي متلاحقة لتمنع على الآخرين فرصة الانقضاض عليها بالتدبر ورد الفعل القوي، فكيف يمكن تفسير خروج التظاهرات والدخول إلى المنطقة الخضراء و”تحريرها” على حد وصف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر والسيطرة على ما يسمى المؤسسة التشريعية “مبنى البرلمان”، والاكتفاء بالخطب ومظاهر الاعتصام وإقامة “مراسم العزاء الحسينية” والاستعداد لأداء صلاة الجمعة قبل خمسة أيام من موعدها واستقبال أعداد من العشائر المؤيدة والتقاط الصور ونشر أخبار الزيارات التي تقوم بها قيادات من التيار الصدري والقول إن الاعتصام سيستمر حتى إسقاط الفاسدين، ومن دون أن يبينوا للعراقيين كيف سيسقط هؤلاء وهم يسبحون في بحيرات الفساد والنهب والاستحواذ متحصنين بالميليشيات والسلاح وإرادات خارجية ترعى وجودهم وتؤيده، غير مبالين من عشرين عامًا لصرخات العراقيين وأنينهم ومعاناتهم؟ الأمر الذي يجعل الجميع يتساءلون: ماذا ينتظر من يقولون إنهم ثوار إذا كانوا قد خرجوا للثورة؟
أن حالة “التسكين” التي صاروا إليها لا يمكن أن تفسر إلا بكونهم ينتظرون أن يدلوا الطرف الآخر بدلوه بعد أن عرضوه لهزة التظاهرة وما انطوت عليها، وقد شاهد أين صارت أقدام المتظاهرين وهتافاتهم الآن، وهو جزء من ضغط قوي قد نجحوا في إحداثه على خصومهم “الإطار التنسيقي” من خلال استعراض سريع لإمكانياتهم في الشارع العراقي وبعض أفعالهم، وهو أمر قد يدفع الطرف الآخر لتقديم التنازلات. وفعلًا فقد بدأ سيل من التصريحات والبيانات يتوالى، يطالب فيه أصحابه من “الإطار التنسيقي” أو من الأطراف التي تدعمهم أو التي تدعي الحياد بضرورة ما يسمى “الحوار الوطني” والجلوس إلى طاولات تعددت أشكالها “مستديرة أو مستطيلة أو مربعة ” أو مجرد الجلوس حتى بدون أية طاولة، فالمهم عند الجميع هو “وحدة الصف الشيعي” والحفاظ على العملية السياسية واستمرارها خوفًا من انفراط عقدها. وتبع ذلك بيانات وإعلانات سفارات عديدة في بغداد مقدمتها السفارات الأمريكية والبريطانية والفرنسية تدعو للحوار وتؤيد ماكان رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي قد أعلنه من دعوة لجلوس كل أطراف العملية السياسية إلى “طاولة مستديرة ” في محاولة للخروج بحلول للأزمة المتفاقمة، التي رد عليها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بخطاب قصير رفض فيه الحوار “الحوار معهم قد جربناه وخبرناه وما أفاء علينا وعلى الوطن إلا الخراب والفساد والتبعية… فلا فائدة ترتجى من الحوار” مؤكدًا مرة أخرى على أن ما يجري هو “ثورة” داعيًا إلى حل البرلمان الحالي وإجراء انتخابات مبكرة جديدة وما سماها عملية ديمقراطية ثورية سلمية.
وهكذا، تعود الأسئلة لتتوالد مرة أخرى مع خطاب مقتدى الصدر، فهل الحل يكمن في انتخابات مبكرة جديدة؟ وفي اي بيئة ستجري هذه الانتخابات لتعطي نتائج جديدة ومفيدة للعراق والعراقيين والحال هو الحال، حيث الميليشيات تتسيّد الشارع والسلاح المنفلت بيد الجميع ومال الفساد جاهز للرشوة وشراء الذمم وصناعة قصص وهمية وتصوير الحال بغير واقعه؟ ومن سيشارك بها إذا ما افترضنا القدرة على منع الفاسدين؟ هل ستشارك نفس الأحزاب بتقديم وجوه جديدة غير التي يعرفها الشعب، وهو العارف أن العلة تكمن في العملية السياسية وفي هذه التي تسمى “جزافًا “أحزابًا؟ فكل ما تسمى أحزابًا بكل شخوصها وميليشياتها هي أساس الفساد والنهب والخراب. فهل سيُمنع هؤلاء من المشاركة؟ وإذا ما منعوا من سيشارك إذن؟ وإذا ما تجاوزنا هذه الإشكالية وقالوا إن تلك “الأحزاب” يمكن لها المشاركة بأسماء جديدة “غير مجربة” فأن هناك إشكالية كبيرة أخرى تكمن في السؤال: ماذا إذا وصلنا إلى نفس النتائج التي صارت إليها الانتخابات المبكرة السابقة. هل ستعودون إلى التظاهر مرة أخرى، أم يتم إجراء انتخابات أخرى “مبكرة أيضًا”؟ ولنفترض تجاوز هذه الإشكالية أيضًا، فكيف يمكن تجاوز إشكالية التغول الإيراني على العراق الذي صار ظاهرة لا يمكن إنكارها أو القفز عليها وادعاء عدم وجودها “سواءً في حالة فشل الاتفاق النووي مع أمريكا أو في حالة النجاح بإبرام ذلك الاتفاق” وهي الداعمة للعملية السياسية ولكل الشخوص والأحزاب التي تتقصد دعوة الانتخابات المبكرة إبعادها عن المشاركة فيها وعن الحياة السياسية والاقتصادية في العراق، التي سعت طهران إلى ترسيخها طوال عشرين سنة مضت؟
الحقيقة التي تبقى والتي يتم التغطية عليها في ظل كل هذا التخبط وما يظهر من “تسويف” أن الجميع يعرفون جيدًا ماذا يحتاج العراق بعد عشرين سنة من الخراب والفساد وحكم عملية سياسية كل مخرجاتها تتمثل بالفساد والتبعية والهوان مستعينة بدستور كسيح مملوء بألغام الفرقة والتمزيق وسلب هوية الوطن والمواطن. الجميع يعرفون جيدًا أن ما يحتاجه العراق هو ثورة حقيقية تسقط العملية السياسية وتشكل حكومة مؤقتة توعز بتعطيل الدستور وتحدد فترة انتقالية يتم فيها تجريم الطائفية ويتولى فيها شعب العراق “بعيدًا عن الطائفية والمحاصصية” كتابة دستور عراقي بمقاسات وطنهم وحاجاته ويمهد لانتخابات حرة ونزيهة بعد أن يتم القبض على الفاسدين والسراق وتولي القضاء العادل محاسبتهم. فهل تتقصد الثورة التي يشير إليها مقتدى الصدر ذلك كله أم أن علينا أن نقولها مرة أخرى “…مثل ما رحتي مثل ما جيتي”؟ وتلك والله رؤية هادئة في جو مشحون.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى