أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

هل كانت فتنة حقًا؟

لم تمض سوى 22 ساعة على ما أعتقده البعض بداية لحوار جديد “بالرصاص والهاونات والقنابر” بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، وإن كسر الرؤوس وتقطيع الأصابع سيؤدي بعد ذلك إلى أن تستوي الساحة لمن يدعي الإصلاح والثبات على المبادئ.
غير أن كل ذلك سرعان ما تبدد بعد تلك الساعات التي شهدت عمليات الكر والفر داخل المنطقة الخضراء التي أقلقت من يريدون القلق أو من يتخيلونه، أما الآخرون “الرعاة” ومن يعيشون في مستنقعهم بخطوط ومسافات حددوها بمعايير وشروط لإثبات حسن الولاء والاستعداد لتقديم أفضل الخدمات فإنهم كانوا بكامل الاطمئنان بأن خطتهم ستنفذ بحرفية عالية ومن ستدوسه العجلات “قتيلًا أو جريحًا” سيكون ثمنًا مستحقًا لمسرحية يعرف الجمهور نهاياتها، مثلما يعرفون أنها بدأت باستقالة نواب التيار الصدري ثم التظاهرات التي دخلت المنطقة الخضراء بكل سهولة و”احترام” وإعلان الاعتصام حتى سقوط الفاسدين الذي كان شعارًا مضحكًا ينطوي على مفارقة تتلخص في سقوط الفاسدين بمجرد القبول بإجراء انتخابات مبكرة جديدة لا يشارك فيها “المجربون”، ثم تطور الأمر بعد أن أدرك من رفعوا ذلك الشعار بأنه قد بات سخرية تلوكه أفواه الناس، فذهبوا إلى القول إن كل الأحزاب التي شاركت في العملية السياسية وكل قواها ممنوعة من المشاركة في الانتخابات المبكرة المزعومة، الأمر الذي حول هذا الشعار أيضًا إلى نكتة كبيرة بسؤال مفاده: من سيشارك إذن لتبقى العملية السياسية التي أهلكت العراق والعراقيين قائمة مثلما يريد الرعاة “إيران وأمريكا”. وإلا فإنهم سيزعلون وسيكون لذلك ثمن باهظ يجب دفعه؟
وهكذا كان على الرعاة الإيرانيين “مثلما هو مطلوب” أن يرفعوا ستارة الفصل الثالث “الأخير” من هذه المسرحية على حدث كان الجمهور ينتظر حصوله بين لحظة وأخرى، لكنهم لم يكونوا يعرفون شكل هذا الحدث وإن كانوا يعرفون نتائجه وإذا به متمثلًا بشخص “الحائري” الذي يقول مقتدى الصدر إن والده قد أوصاه بأن يكون مرجعه الذي أعلن في سابقة هي الأولى اعتزاله العمل المرجعي إذ لم يسبق لمرجع شيعي أن اعتزل العمل المرجعي بأي حجة كانت، ودعوته الجميع لإطاعة خامنئي ودعم الحشد وتأييده كقوة مستقلة “غير مدمجة” على حد تعبيره، وهو ما تسعى إليه طهران منذ تشكيل ميليشيا الحشد لتكون حرسًا ثوريًا على غرار الحرس الثوري الإيراني الذي يتحكم بكل شؤون إيران ومصيرها. ثم جاء الحائري على ذكر أن من يسعى لتفريق أبناء المذهب “البيت الشيعي” فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية، وهو ليس صدريًا مهما ادعى أو انتسب، وهو تهديد واضح لزعيم التيار الصدري مقتدى بأن يخضع لخيار الإطار التنسيقي.
إن إعلان الحائري قد رسم النهاية لتلك المسرحية، فخلال أحداث 22 ساعة تلت إعلان الحائري كان مقتدى أعلن في بدايتها الاعتزال النهائي وإغلاق كافة المؤسسات التابعة له باستثناء عدد قليل منها، الأمر الذي دفع أتباعه إلى النزول للشارع والتوجه بأعداد كبيرة إلى المنطقة الخضراء ومحاولة السيطرة عليها بالكامل مع انتشار سريع لما يعرف بمليشيا السلام التابعة للصدر في مناطق عدة من بغداد وعدد من مدن جنوب العراق خاصة البصرة، وهم بكامل أسلحتهم، وما هو إلا وقت قصير حتى اندلعت المواجهات المسلحة داخل المنطقة الخضراء التي شهدت هروب كل المسؤولين الحكوميين والحزبيين الذي يتخذون من تلك المنطقة سكنًا ومقرات لهم وفي مقدمتهم زعيم دولة القانون نوري المالكي الذي أعتبر دخول أتباع التيار الصدري بهذا الشكل المنطقة الخضراء التي يتخذ من أحد قصورها بيتًا له إيذانًا بدنو الخطر الشديد منه كونه خصمًا لدودًا لزعيم التيار الصدري وأتباعه، خاصة بعد التسريبات الصوتية التي كشف فيها المالكي عن مخططات للتخلص من مقتدى والتحريض عليه، الأمر الذي جعله يسرع في الهروب بعيدًا عن تلك المنطقة.
الاشتباكات كانت تتصاعد بين ميليشيا السلام التابعة لمقتدى الصدر من جهة وبين أفراد العمليات الخاصة التابعة لمليشيا الحشد الذين يساندهم لواء الحماية التابع لبرهم صالح وهم جميعًا من منتسبي حزب الاتحاد الكردستاني المقرب من طهران فضلًا عن حمايات المسؤولين ورؤساء الأحزاب داخل المنطقة الخضراء، فيما كانت بيانات الجيش عن واجبات له أو مهام داخل تلك المنطقة، هي مجرد ادعاءات فارغة، إذ ليس للجيش ولقيادة عمليات بغداد تحديدًا أية مهام داخل المنطقة الخضراء. ومع استمرار تصاعد تلك الاشتباكات التي استعملت فيها الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وأحيانًا الثقيلة بدأت الإعلانات تتوارد عن سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، وتوالي البيانات الداخلية والإقليمية والدولية الداعية إلى وقف القتال والمعبرة عن قلقها الشديد على العملية السياسية، لاسيما البيانات الصادرة من البيت الأبيض والخارجية الأمريكية والسفارة الأمريكية في بغداد وما صدر عن خامنئي وخارجيته والحكومة الإيرانية، التي حملت إضافة إلى تلك المخاوف مناشدات لمقتدى الصدر للتدخل وإيقاف تلك المواجهات المسلحة التي أعتبرها خامنئي كما اعتبرتها طهران فتنة لتمزيق المذهب، وهو نفس ما قاله الحائري وهو يعلن اعتزاله المرجعية، فضلًا عن ترديد هذا القول من قبل كل زعماء الأحزاب الطائفية والميليشيات التابعة لها وأولهم هادي العامري زعيم ميليشيا بدر.
فيما يعرفه أهل العراق أن الحقيقة تكمن في أن الصراع كان ولايزال من أجل المكاسب والمناصب والسلطة، وإن ما حصل ويحصل هو حصاد لما زرعه الاحتلال الأمريكي للعراق منذ نحو عشرين سنة، يوم جعل المكونات أساسًا في بناء المجتمع العراقي وحكم العراق وجاء بصيغة الأكثرية والأقلية بأرقام لا أسانيد لها.
فأين الفتنة من ذلك؟ والكل يعرف أن العراقيين الشيعة لم يعانوا من الضيم والأذى والقهر والفقر والأمراض والأمية والإهمال، مثلما عانوا على يد الأحزاب الشيعية التي ادعت منذ عام 2003 أنها جاءت لرفع المظلومية والحيف عنهم، ولعل قيام جماهير المحافظات الجنوبية “من الشيعة” بإحراق مقرات تلك الأحزاب ومقاطعتهم الانتخابات وحرق صور قادة الأحزاب ورموزهم خير دليل على رفض العراقيين للفكر الطائفي الذي يراد له أن يظل حاكمًا للعراق.
وهكذا ما إن دقت الساعة 22 على بدأ تلك الأحداث، وإذا بمقتدى الصدر كما هو متوقع “تمامًا” يدعو جماعته للانسحاب من المنطقة الخضراء وإنهاء القتال، ولم تمض مهلة الـ “60 دقيقة” التي أعطاها لأتباعه للانسحاب، إلا وكانت المنطقة الخضراء قد خلت تمامًا من كل أتباعه عائدين إلى بيوتهم، في رحلة سبق وأن عاشوا تفاصيلها المتكررة أكثر من مرة. وكان علينا ونحن نشهد ما حصل أن نستذكر عنوان مقال سابق: هل نعود لنقولها مرة أخرى؟ “مثلما رحتي مثلما جيتي”.
فهل كانت فتنة حقًا؟ وهل ما فعله مقتدى الصدر شيء جديد وهو يرمي طوق النجاة للعملية السياسية ولقواها؟ وهل سيبقى العراق أسير الفكر الشاذ والفساد المتنامي والتبعية المطلقة فاقدًا لهويته ولإرادته؟

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى