أخبار الرافدين
طلعت رميح

أحوال الدنيا

هل انتهى زمن أوروبا القوية؟

أعادت الحرب الروسية الأمريكية على الأرض الأوكرانية، أوروبا خطوات كبرى إلى الوراء. ولو كانت روسيا والولايات المتحدة قد تحالفتا “استراتيجيا” ضد أوروبا في هذه الحرب، لما كان لهما أن يفعلا بأوروبا أكثر مما فعلتاه بها الآن وهما أعداء!
روسيا ضغطت على الاقتصاد الأوروبي بدرجة تؤثر على النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، بل حتى على الأوضاع المعيشية للمواطنين، حتى قال ماكرون إن زمن الرفاهية انتهى.
الولايات المتحدة سلبت الروح التي كانت تقود مشروع التكامل والاستقلال الأوروبي وقطعت جسر التواصل الاقتصادي والسياسي بين أوروبا وروسيا وحولتهما إلى أعداء. وهي تعمل الآن بإلحاح وتسارع الخطى لقطع جسر التواصل بين أوروبا والصين التي تجاوزت الولايات المتحدة وأصبحت الشريك الاقتصادي الأول لأوروبا في عام 2020.
لقد عادت أوروبا من بوابة الحرب في أوكرانيا إلى وضع شبيه، بما كانت عليه خلال الحرب الباردة. عادت أوروبا إلى وضعية القوة المضافة لقوة الولايات المتحدة في صراعها مع الاتحاد السوفيتي، والآن ضد روسيا ولحالة القوة الفاقدة لاستقلالها لمصلحة الهيمنة والسيطرة الأمريكية وإلى وضعية القوة غير القادرة على اتخاذ قرارها المستقل وفرض مصالحها بقوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية.
ظهرت أوروبا بمظهر المستخذي أمام الولايات المتحدة، والخائف من روسيا والمستعد لتغيير علاقاتها مع الصين تحت الضغط الأمريكي!
وتلك حالة مختلفة عما كانت قد وصلت إليه أوروبا خلال السنوات الأخيرة.
فمن يراجع تطورات القوة الأوروبية والطموح والتفاعل الاستراتيجي لدولها خلال السنوات العشر الأخيرة، ويقارنه بمواقف أوروبا ودورها وعلاقاتها الإستراتيجية مع روسيا والصين والولايات المتحدة، خلال الحرب الأوكرانية سيكتشف مدى التراجع الذي أصاب أوروبا على صعيد استقلالها وقدرتها على الدفاع عن مصالحها إلى درجة تستدعي التساؤل عن مستقبلها.
كانت الحرب العالمية الثانية قد أحدثت دمارًا وخرابًا هائلًا بأوروبا وعقب انتهاء الحرب نفذت الولايات المتحدة خطة شاملة على الصعد الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لإحكام السيطرة على أوروبا.
أطلقت الولايات المتحدة مشروع مارشال الاقتصادي 1947، تحت عنوان إنهاض أوروبا المدمرة، وكان هدفها ربط الاقتصاد الأوروبي بالأمريكي، وشكلت وقادت حلف الأطلنطي في عام 1955، تحت عنوان المحافظة على أمن القارة الأوروبية من خطر الاتحاد السوفيتي، وكان هدفها منع أوروبا من بناء قوتها العسكرية المستقلة كما عمقت الولايات المتحدة صلاتها مع النخب العسكرية والمدنية الأوروبية إلى درجة اختراقها “إستراتيجيًا”.
وكان لافتًا أن زرعت الولايات المتحدة عشرات القواعد العسكرية في طول أوروبا وعرضها وواصلت العمل بالشروط التي فرضت على ألمانيا وإيطاليا بعد استسلامهما نهاية الحرب، وهما عضوتان بالأطلسي، بما أعاق قدرة الدولتين على بناء قوات مسلحة وطنية قوية مجددًا.
لكن انتهاء الحرب الباردة جاء لمصلحة أوروبا. لم تتخلص أوروبا من ضغط الاتحاد السوفيتي فقط، بل ومن ضغط الحاجة للدور الأمريكي الحامي لها أو المتعلل بحمايتها لتحقيق الهيمنة عليها.
لقد سرعت الدول الأوروبية من خطوات تطوير الاتحاد الأوروبي سواءً على صعيد العملة الموحدة أو البناء الاقتصاد أو الصناعة المشتركة أو البناء التشريعي أو السياسة الخارجية إلى درجة منافسة الولايات المتحدة، كما توجهت أوروبا إلى تعميق علاقاتها مع روسيا والصين.
تلك التحركات الأوروبية لاقت ترحيبًا لدى كثير من دول العالم، التي نظرت إلى أوروبا بصفتها قوة غربية يمكن التعاون معها لمواجهة الضغوط الأمريكية، ورأت فيها قوة غربية يمكنها التفوق على الولايات المتحدة بعدما صار اقتصادها موازيًا لقدرة الاقتصاد الأمريكي على صعيد الناتج المحلى الإجمالي بدءًا من عام 2007، إذ بلغ الناتج المحلي الأوروبي 14 تريليون دولار ونصف التريليون، فيما كان الناتج القومي الأمريكي 15 تريليون دولار. بعدما أنشأت أوروبا شركات منافسة لأهم الشركات الأمريكية، كما هو حال شركة إيرباص المنافسة لشركة بوينغ، وصارت العملة الأوروبية تتقدم حتى أصبحت العملة الثانية عالميًا بعد الدولار، فحولت كثير من الدول نسبًا من احتياطاتها المالية لليورو بدلًا من الدولار، وزاد من هذا الزخم أن بدأت أوروبا خططها وخطواتها لبناء قوتها العسكرية المستقلة عن حلف الأطلسي خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي هاجم الدور والمساهمة الأوروبية في الحلف وأطلق تهديدات علنية ضد استمراره، وهو ما شكل بداية قفزة للوضع الدولي على صعيد بناء عالم متعدد الأقطاب.
وهنا تحديدًا جرت الحرب الأوكرانية التي خططت الولايات المتحدة لإشعالها لإعادة أوروبا إلى حالة التقسيم بين أوروبا شرقية تهيمن عليها تحت عنوان الخوف من روسيا، وأوروبا غربية ضعيفة.
كما تمكنت الولايات المتحدة من عزل روسيا عن أوروبا، وإضعاف قدرة أوروبا على بناء قطب دولي منافس لها. كانت أوروبا قطعت شوطًا كبيرًا لتحقيق استقلالها عن الولايات المتحدة فكانت على مرمى حجر من بداية بناء قوتها العسكرية بعد أن احتلت مرتبة دولية عليا على صعيد الاقتصاد الدولي والتكنولوجيا في مختلف مجالاتها، لكنها عادت الآن لتصبح أقل استقلالًا عن الولايات المتحدة وفى حالة صراع مع روسيا، تنهك قوتها وفي حالة اضطراب اقتصادي بل على أبواب تمردات وتغييرات اجتماعية وسياسية قد يكون بعضها خطيرًا.
فهل انتهت قصة أوروبا كقطب دولي، أم أن عوامل كامنة متعددة ستعيد أوروبا مجددًا إلى بناء طموحها باعتبارها قوة مستقلة؟

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى