أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

العملية السياسية والمعادلة الصفرية!!

في تفسيرها لمفهوم المعادلة الصفرية، تقول الكثير من المصادر إنها الحالة التي يكون فيها ربح أو خسارة مشارك ما مساويًا بالضبط إلى مجموع الخسائر أو المكاسب للمشاركين الآخرين، ويرى العديد من المنظرين السياسيين والعسكريين والاقتصاديين أن مفهوم المعادلة الصفرية في النزاعات الإقليمية أو الدولية يعني “رابح كل شيء أو خاسر كل شيء”.
فهل يمكن لهذا المفهوم أن يتجسد “واقعيًا” على أرض الصراع القائم بين ميليشيا التيار ومليشيا الإطار بما يفضي إلى واقع جديد تنتهي فيه لعبة الصراعات التي كانت وماتزال من أسس بناء ومنهج العملية السياسية التي صممها المحتل الأمريكي للعراق ودشنها بنموذج “المحاصصة الطائفية والعرقية” مجلس الحكم عام 2003؟
السؤال قد يبدو عند البعض الذين يعتقدون بحتمية اندلاع الصراع بين ميليشيا التيار الصدري وبين ميليشيا الإطار التنسيقي، منطقيًا وقريبًا من الحصول، وأن الأمور لابد أن تستقيم لطرف معين بالمعادلة الصفرية. لابد أن يكونوا في وهم وقد دفعتهم بعض الحسابات غير الصحيحة “ومنها حسابات عاطفية” إلى تبني تلك المعادلة التي لا تنسجم أبدًا مع فكرة ومنهج وأهداف العملية السياسية ومبدأ الدخول فيها لأن العملية السياسية قائمة على معادلة مختلفة تمامًا تسمى “معادلة الاسترضاء” التي عرفت وشاعت أخبارها إبان الحرب العالمية الثانية (1939-1945) من خلال محاولة الدول الأوروبية تفادي الدخول في حرب مع ألمانيا بقيادة أدولف هتلر، عن طريق تقديم تنازلات أو ارضاءات له. ويذكر المؤرخ الأمريكي الشهير بول كيندي “أن معادلة أو سياسة الاسترضاء، لم تكن دائمًا تحمل دلالات سلبية على القوى التي تختارها وأهداف الإطار الذي تتبناه وتتحرك داخله، ويذكر أن الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر قدمت استرضاءات أو تنازلات للولايات المتحدة الأميركية، مثل تنازلها عن حقوقها في ملكية 50 بالمائة من قناة بنما، وتنازلات بشأن ترسيم الحدود بين ألاسكا وكندا، رغم أن بريطانيا كانت آنذاك القوة البحرية الأولى عالميًا، لكنها بهذه الاسترضاءات مهدت لتحول سلمي للقوة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأميركية، فوضعت بهذا العمل أساس العلاقة القوية التي سمحت للولايات المتحدة الأميركية بمناصرة بريطانيا في حربين عالميتين في القرن العشرين”.
فضلًا عن ما تبع كل ذلك من مساندة بينهما في أحداث حروب وعدوان واتفاقات كثيرة جرت فصولها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى اليوم، ولعل تحالفهما في العدوان على العراق عام 1991 ومن ثم احتلاله عام 2003 خير دليل على معادلة أو سياسة الاسترضاء التي يتبنونها، وقد قامت عليها أسس بناء الإطار الاستراتيجي بينها.
إن الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة الأكبر والأكثر تأثيرًا في العالم، تبنت في تعاملها مع أغلب دول العالم ومنها العراق، تفعيل المعادلة الصفرية كأساس في تصريف سياساتها وتحقيق مطامعها وأهدافها، وبالعودة إلى سنوات الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988)، راهنت واشنطن على أن تنتهي الحرب بطرفين خاسرين، لكنها منذ احتلال العراق قبل ما يقرب من عشرين عامًا وبالتخادم مع طهران، فرضت على أطراف العملية السياسية معادلة أو سياسة الاسترضاء، باعتبارها الأساس في استمرار تلك العملية وفي بقاء قواها على سدة الحكم وما يتبع ذلك من قدرات متاحة على النهب والسلب والثراء وحماية المشروع الذي جاء به الاحتلال عام 2003 القاضي بإضعاف العراق وتشتته ومواجهة شعبه لأزمات لا حصر لها، بما يعيق قدرته على النهوض ببلده مرة أخرى وبالتالي إخراج العراق من معادلات القوة والقدرة المؤثرة “محليًا وإقليميًا وعربيًا” وذلك سبب من الأسباب الرئيسية في العدوان على العراق واحتلاله. وعلى أساس كل ذلك ومن خلال متابعة ما جرى خلال ما يقرب من عشرين سنة بين قوى العملية السياسية في العراق، وما جرى أخيرًا من توتر وصراع محدود جدًا بين ميليشيا التيار ومليشيا الإطار شهدت المنطقة الخضراء جانبًا مهمًا منه، يظهر جليًا أن الأساس في طريقة تصريف الحكم في العراق في إطار العملية السياسية يعتمد على “لعبة بلا رابحين”، وأن المعادلة الصفرية في الصراع بين قوى العملية السياسية وميليشياتها، غير مسموح بها أبدًا، وما يتردد على ألسنة العديد من رموز العملية السياسية وميليشياتها عن كون الحكم في “العراق الجديد” لا يستوي إلا بوجود كل أطراف العملية السياسية “طائفيًا وعرقيًا” وفي مقدمتهم التيار الصدري، هو أمر يتبنونه وملزمين بتنفيذه أمام رعاتهم الرسميين “أمريكا وإيران”، وما انسحاب نواب التيار الصدري وتصريحات زعيمه مقتدى الصدر في العزوف عن المشاركة في الحكم، إلا محاولة مكررة من سلسلة عروض مشابهة قدمها في أكثر من مناسبة على مدار ما يقرب من عشرين سنة، حتى تجاوز عدد المرات التي أعلن فيها مقتدى الصدر انسحابه من الحكم خمس مرات ومن ثم عودته باسترضاء معين، فما الذي يجعل الصورة مختلفة هذه المرة؟
إن من يعتقدون بأن وصول الأمور إلى المواجهة بالسلاح بين ميليشيا التيار ومليشيا الإطار التي جرت وقائعها خلال نحو عشرين ساعات من يومي 29 و30 آب الماضي في مسرح المنطقة الخضراء في بغداد، هو ما يجعل الأمور مختلفة هذه المرة. لابد عليهم أن لا يطلقوا أحكامهم على الأوضاع وفقًا لمعطياتها الآنية، وأن لا تجرهم خطابات وبيانات هذا الطرف أو ذاك إلى الاعتقاد بأن الأمور تجري وفقًا لما تنطوي عليه حماسة تلك الخطابات والبيانات فهي بالنتيجة لا تعبر عن واقع الحال ولا ترسم الصورة الحقيقة لطبيعة التصرف والاتجاه الذي يمكن سلوكه لكل الأطراف، لأن هذه الأطراف ببساطة شديدة جدًا قد قبلت منذ دخولها العملية السياسية بكل شروطها، التي سمحت لها بعد ذلك بالتمتع بمكاسب الحكم وسطوته المتمثلة بحصص من المناصب والأموال والمشاريع “وهو ما وصفته إحدى النائبات بتقاسم الكعكة”، وعدا ذلك ودونه فهي ستخسر كل تلك المكاسب والسطوة والقدرة على أن توسع مكاسبها وتؤمن أنصارًا لها وتحمي وجودها في ساحة تعج بالميليشيات والعصابات وتجار الموت. فمن قبل بالعملية السياسية إطارًا حاكمًا ومنهجًا لحياته السياسية والاقتصادية لابد أن يكون شريكًا في كل مخرجاتها من فساد وخراب وطائفية وتبعية، وخنوع وكذب وتدليس… وبالتالي فإن انقلابه على بعض أطرافها ودخوله في صراع معها حتى وإن كان مسلحًا فهو محاولة للتمدد أكثر على حساب الأطراف الأخرى، التي ستجد نفسها مستفزة للدفاع عن مساحات من مكتسباتها التي قد تدفع بها إلى استعمال السلاح، وهو أمر طبيعي جدًا في عرف عصابات وميليشيات ليس لها سوى السلاح أداة لفرض وجودها وتحصيل مكاسبها غير الشرعية أصلًا. فضلًا عن كون الراعيين الرسميين للعملية السياسية “أمريكا وإيران” لا يسمحان بتطور أي صراع إلى الدرجة التي يمكن أن يصبح فيها عاملًا مهددًا في انهيار العملية السياسية، فهم يسمحان بالمشاكسات والمواجهات المحدودة أملًا في تفعيل معادلة الاسترضاء، وهو ما ستؤول إليه الأمور بالتأكيد. فلا زعيم التيار للصدري يريد أن يغادر العملية السياسية ولا زعماء الإطار التنسيقي يريدون ذلك ولا يُسمح لهم أصلًا بذلك، ومن هنا فإن الحرص الذي يبديه جميعهم ومن بينهم مقتدى الصدر إضافة إلى سنة العملية السياسية وأكرادها في التأكيد دائمًا على ضرورة الحفاظ على العملية السياسية، يعبر بوضوح عن وجودهم وحياتهم التي يريدونها، وهو نفس المطلب الذي أكدت عليه كل الأطراف الإقليمية والدولية الراعية للعملية السياسية والداعمة لها وفي مقدمتهم أمريكا وإيران التي بلغ بها الأمر إلى التهديد والوعيد والزجر والتصرف بأشكال مباشرة وغير مباشرة من أجل إعادة الأمور إلى نصابها، ولعل ما فعله المرجع الحائري في اعتزال العمل المرجعي والتخلي عن تلميذه وتابعه مقتدى الصدر، هو خطوة من تلك الخطوات التي تم اتخاذها وصولًا إلى تفعيل معادلة الاسترضاء الجاهزة في كل حين والمجربة أكثر من مرة. ووفقًا لذلك فإن إصرار الإطار التنسيقي على التمسك بمرشحه محمد شياع السوداني الذي يرفضه التيار الصدري، هو محاولة لرفع سقف المواجهة توطئة لتفعيل معادلة الاسترضاء، من خلال القبول فيما بعد بمرشح آخر يقبل به التيار وبما يرجح معادلة لا غالب ولا ومغلوب.
فهل مازال البعض يعتقد أن المعادلة الصفرية يمكن أن تسود من قبل أطراف من العملية السياسية وفيها مقتل هذه العملية وانهيار معبدها على أتباعها؟

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى