أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

إلى غوتيرش مع بالغ الأسف

فجأة ومن دون سابق إعلان، حملت الأخبار نبأ وصول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش إلى بغداد. فاستدعى وصوله الكثير من الأسئلة وأولها وأهمها: ما الذي جاء برئيس المنظمة العالمية إلى بغداد فيما اشتعلت وتشتعل العديد من الدول والعواصم والمدن بالنزاعات والحرائق والزلازل، والاجتياحات والموت فقرًا وقهرًا. ولم يره العالم يحط بطائرة الأمم المتحدة فيها ليسأل عن حال تلك البلدان والمدن وأهلها؟ وتلك والله ليست مسؤولية إنسانية أو ترفًا أو “شوو” إعلاميًا، لكنها في صلب مسؤوليته عن تنفيذ ميثاق المنظمة التي يتولى أمانتها العامة، وهو ميثاق قديم لا يسمح لأحد في تسويق فكرة أن الرجل ربما لم يطلع عليه لحداثة إصداره وإقراره بسبب مشاغله الكثيرة وأجندة أعماله المزدحمة.
فقبل 78 سنة وبالتحديد في يوم الخامس والعشرين من نيسان عام 1945 وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عقد ممثلون لحكومات خمسين دولة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية مؤتمرًا لصياغة ميثاق الأمم المتحدة الذي أعتمد بعد نحو شهرين من ذلك المؤتمر، ثم دخل حيز التنفيذ في الرابع والعشرين من تشرين الأول عام 1945 أيضًا.
وبذلك فهو وثيقة قديمة قامت المنظمة الدولية على أساسها، وأعلنت للعالم أنها ملزمة باحترامها وتنفيذ ما جاء فيها، ولأن ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة ملزم للمنظمة ولأكبر رأس فيها “أمينها العام”، فلابد من التذكير به كونه يبرر طرح السؤال عن الأسباب التي دفعت بالدبلوماسي البرتغالي أنطونيو غوتيرش رئيس وزراء البرتغال الأسبق الذي يتولى اليوم مسؤولية الأمانة العامة للأمم المتحدة لدورة ثانية بعد أن كان قد انتخب لها أول مرة عام 2017، لزيارة العراق ولم تدفعه لزيارة بلدان أخرى. حيث حدد ميثاق المنظمة الدولية الغاية من تأسيسها بالمحافظة على السلم والأمن الدوليين عن طريق اتخاذ تدابير جماعية فعالة لمنع وإزالة الأخطار التي تهدد السلام وإلى تنمية العلاقات الودية بين الدول على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للشعوب وتعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع دون تمييز بسبب العرق، أو الجنس أو اللغة أو الدين.
ومن يقرأ هذا الميثاق ويشاهد صور غوتيرش في بغداد سعيدًا وهو محاط بثلة ممن تعتبرهم منظمته وتعتبرهم دول العالم وأولها “الولايات المتحدة الراعية الرسمية للمنظمة الدولية” في قوائم الإرهابين والسراق والفاسدين والمخربين وتحملهم مسؤولية دماء وأمول كبيرة، وقد جمعتهم للقاء به ممثلته في العراق وزيرة الدفاع الهولندية السابقة جينين بلاسخارت وهي تعبر عن سعادتها بذلك اللقاء من خلال ابتسامة عريضة رسمتها على وجهها معبرة فيها عن عمق السرور والانشراح بتلك “اللمة”، وهي التي سبق أن وصفت كل من جمعتهم ليحيطوا بالأمين العام للأمم المتحدة “ولي نعمتها” في إحاطتاها الشهرية لمجلس الأمن التابع للمنظمة العالمية بأنهم لصوص وفاسدون ومخربون وحملتهم مسؤولية دماء العراقيين الذين قتلوا في شوارع وساحات المدن العراقية وهم يطالبون بوطنهم وبمحاسبة الفاسدين وتغيير النظام، وهي التي أكدت في آخر إحاطة لها قبل قدوم غوتيرش بعشرين يومًا أن الوضع في العراق مأساوي وأن الحديث عن الديمقراطية والحكومة الرشيدة والسياسات الناجعة ليس أكثر من هراء. الأمر الذي يجعل المرء مضطرًا للسؤال: هل إن منظمة الأمم المتحدة تعاني من مرض انفصام الشخصية؟ أم إنها في الحقيقة زعيمة لمافيا دولية وأن ميثاقها الذي صدعت رؤوس الشعوب بالحديث عنه، مجرد خرقة بالية يتم إخراجها مرة أو مرتين في كل عام من دولاب عتيق مهمل في أحد “سراديب” المبنى الزجاجي للمنظمة في نيويورك، ويتم تجمليه بإطارات وصور ملونة للاستعراض به كلما جاءت ذكرى قيام المنظمة أو إقرار ميثاقها؟
ولأن صورة زيارة الأمين العام للأمم المتحدة لا تكتمل إلا بأحاديثه وتصريحاته المدوية عن الديمقراطية والسلام، لذلك راح يعرب “والعصابة” تحيط به عن ثقته بأن العراقيين سيتمكنون من تجاوز الصعوبات والتحديات التي يوجهونها بفضل حوار مفتوح وشامل، معبرا عن إعجابه بالشعب العراقي.
ولابد لمن استمع أو قرأ تصريح غوتيرش هذا، أن سأل نفسه أو المحيطين به: عن العراقيين الذين يقصدهم الأمين العام للأمم المتحدة سواءً المعجب بهم أو الذين سيتجاوزون الصعوبات والتحديات التي يوجهونها “على حد قوله”.
فاذا كان يتحدث عن الشعب العراقي كان لابد لممثلته في العراق بلاسخارت، أن تقول له مسبقًا إن الشعب العراقي يقف بالضد من السلطة وبعض رموزها الذي يحيطون بك. وأن تقول له إن الصعوبات والتحديات التي يواجهها الشعب العراقي هي من صناعة من يحيطون بك.
وإن أي حوار مفتوح وشامل بين السلطة والشعب لا يعبر عنه إلا برجال ملثمين يجيدون في حوارهم مع الشعب استخدم لغة الرصاص والكواتم والسكاكين والعصي الغليظة والاعتقالات والتنكيل والتغييب والتعذيب. وما حصل في ثورة تشرين عام 2019 خير مثال على طبيعة ذلك الحوار الذي تكفلت الأجهزة الإعلامية والسياسية للسلطات الحاكمة بالقول إن المحاور للشعب كان اسمه “الطرف الثالث”.
فأين ذلك الحوار الذي أشار إليه غوتيرش وما هو شكله؟؟
ولم يكتف الأمين العام للأمم المتحدة بذلك، بل راح يؤكد التزام دعمه للحكومة العراقية ولمؤسساتها الديمقراطية. ولم يوضح لنا أو يدلنا على تلك المؤسسات التي يجدها ديمقراطية، في الوقت الذي يقف متحدثًا لمجموعة يتهمها الشعب العراقي بالمسؤولية عن قتل وجرح وتغييب الآلاف من أبنائه، وعن سرق أمواله وأحلامه والولاء للخارج وإشاعة الطائفية والفرقة بين أفراد الشعب والاستيلاء على ممتلكات الآخرين لأنهم من غير مذهب أو دين، ولعل أبناء العراق من السنة والمسيحيين والصابئة وغيرهم ومن بينهم حتى الشيعة التي تدعي أحزاب السلطة أنها تنتمي إليهم وأنها جاءت من أجلهم وهم يعانون الفقر والإهمال والأمراض والأمية والبطالة. خير مثال على ذلك وقد استبيحت حياتهم وبيوتهم وأراضيهم وأموالهم وقبلها استبيحت دماؤهم في مشروع للتغيير الديموغرافي، ولابد لممثلة الأمين العام للأمم المتحدة جينين بلاسخارت قد سمعت عنه أو وصلتها تقارير وأرقام تؤكد وتشرح تفاصيل الصورة البشعة، وهي التي سبق أن أشارت إليها في إحاطاتها الدورية لمجلس الأمن. فهل إن غوتيرش لم يسمع عنها أم أن بلاسخارت لم تكن أمينة في نقل الصورة له. أم إنه يعرف ويبارك الوضع ويبتسم للكاميرات وهي تلتقط له الصور محاطًا بأفراد العصابة التي تتحمل جانبًا كبيرًا من مسؤولية ضيم العراق وقهر العراقيين وسرقة أموالهم وأحلامهم وحياتهم؟
78 عامًا مضت على قيام الأمم المتحدة، تعاقب فيها 8 أمناء عامون كان أولهم النرويجي تريغيف هالفدان لي وآخرهم البرتغالي أنطونيو غوتيرش وبين هذا وذاك زار العراق بعضهم، حيث زاره الأمين العام الأسبق كوفي عنان عام 1998 عندما كان العراق في أوج صراعه مع لجان التفتيش الباغية، ثم زاره الأمين العام السابق الكوري الجنوبي بان كي مون عام 2014 في محاولة تشبه محاولة الأمين العام الحالي غوتيرش في الترويج لباطل ولتسويق وهم وإضفاء شرعية على سلطات لاشرعية سرقت وتسرق ثروات العراق والعراقيين وتنتهك كل حقوقهم وتحول حياتهم إلى جحيم. حتى صار دور الأمم المتحدة في تدمير العراق وقتل شعبه ومحاولة إضفاء الشرعية على ممارسات الميليشيات والعصابات والسراق معروفًا، أما الحديث عن ميثاق الأمم المتحدة وحرص المنظمة الدولية ومجلس أمنها على السلام والأمن الدوليين واحترام حقوق الشعوب في تقرير المصير، فتلك والله مجرد شعارات كاذبة. ولا عزاء للشعوب المظلومة التي ترى في المنظمة الدولية جهة يمكن أن تكون منصفة لها. وما زيارة الأمين العام للأمم المتحدة للعراق إلا صورة عبرت عن ذلك الواقع المر.
والمقال يبعث بنسخة منها إلى غوتيرش و بلاسخارت مع بالغ الأسف!

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى