أخبار الرافدين
طلعت رميح

يوم التقيت الصحاف في طهران!

ليست رواية للتأريخ، لكنها واقعة تكشف جانبًا من أجواء تلك الأيام، وفي كتاباتي، فقليلًا ما أقدم سردًا لمثل تلك الوقائع، ليس فقط لأنني لست صاحب موقع مؤثر في صياغة السياسات، ولأني مجرد شاهد عابر في هذه الدنيا، ولكن أيضًا بسبب اهتمامي بالقضايا الإستراتيجية، التي أراها الوعي المفقود، قصدًا، في عالمنا العربي.
كانت المرة الأولى والأخيرة التي زرت فيها طهران. وسبب الزيارة أني كنت مدعوًا كصحفي مع زميلي الأستاذ عامر عبد المنعم لتغطية وقائع مؤتمر القمة الإسلامية.
وخلال تلك الزيارة كنت شاهدًا، يرى ويبحث ليعرف، وللحقيقة وللتأريخ فقد كان لتلك الرحلة دور مهم في صياغة وعيي ومعرفتي بالحكم الإيراني.
قبلها كنت أرى أن ثورة الخميني حدث كبير جرى لمصلحة الأمة. وكان تقديري أنها أفقدت الكيان الصهيوني القدرة على تطويق الأمة العربية عبر الطوق الجغرافي المتمدد من تركيا إلى إيران إلى إثيوبيا، لكن ما أن أطلت عيني على ملامح الناس ورأيت الخوف في عيونهم في شوارع طهران وسمعت آراء وشكاوى الناس والعرب خاصة، والعراقيين الذين تعاونوا مع الإيرانيين ضد وطنهم، وتعرفت على نظام الملالي عن قرب، حتى انقبضت نفسي. كان الحدث بسيطًا للغاية لكنه كاشف.
التقيت بالوزير العراقي الأشهر محمد سعيد الصحاف لإجراء حوار صحفي وجرى اللقاء في أحد فنادق طهران. كان الحوار مهمًا في تلك المرحلة، وحضر اللقاء د.نبيل نجم المندوب الأسبق للعراق في الجامعة العربية والسفير الأسبق في مصر. وحين حان موعد المغادرة طلب الوزير من السفير نجم بكلمات مداعبة باعتباره عاش في مصر طويلًا أن يكلف إحدى سيارات ضيافة الوفد العراقي بإيصالي إلى الفندق.
ونزل معي السفير نجم وطلب سيارة من السيارات المخصصة لتنقلات الوفد العراقي وتحركت السيارة قادمة وأنا أشكره وأودعه. وفجأة انقلبت الدنيا وظهرت ثارات التأريخ وكاد الأمر أن يصبح أزمة دبلوماسية! حضر ضابط إيراني مسرعًا وهو يحمل كل ملامح التجهم والغضب والغلظة ووقف أمام السيارة ومنعها من الحركة، وبدأ الصياح بصوت عال وصار يهدد بيديه، وقابله السفير نجم يرفع صوته قال هذا ضيفنا ونحن دعوناه وأجرى حوارًا مع الوزير الذي أمر بإعادته إلى الفندق وهو مدعو رسميًا من دولتكم للتغطية الإعلامية.
وفهمت أن الضابط يرى ذلك خروجًا على قواعد الضيافة وأن السيارة للوفد لا لضيوف الوفد. فيما أنا أقول لا مشكلة سأغادر حتى لو سرت على أقدامي… وكلما تحركت زاد الحوار اشتعالًا، فأعود أدراجي.
كانت الأمور تتصاعد والهواتف تضج بالمحادثات وكانت الساعة تقترب من الثانية عشرة مساءً، وكان الطقس شديد البرودة حتى أكاد أرتجف. وتلك هي زيارتي الأولى لطهران ولا أعرف أحدًا، حتى اسم الفندق كنت دونته في ورقة حتى لا أنساه.
السفير نجم اعتبر ما حدث إهانة وأنه من حق العراق استقبال وتوديع ضيوفه والضابط الإيراني يزداد صراخه ويقف مانعًا السيارة من الحركة وكأنه في معركة، وكان من يتحرك بينهما هو أنا الذي لا يفهم الفارسية. حرب محورها أنا!
وفجأة ظهر وزير خارجية السودان على عثمان محمد طه، نائب الرئيس فيما بعد، وأقبل يسأل عما يجري من مشكلة تجمع خلالها من كان داخلًا أو خارجًا من الفندق. وجد الرجل حلًا سريعًا لمشكلة ضيف وسيارة ضيافة.
قال للدكتور نجم سيارة السفارة السودانية التي أقلتني ستوصل طلعت، فهو ضيفكم وضيفي، لكن الدكتور نجم أصر على أن أركب سيارة الضيافة فألح علي عثمان ورجوته ومع مضي الوقت استجاب وفي الطريق زادنا السائق غمًا عن تعنت النظام الإيراني.
انتهى الحدث البسيط وبقيت ملامح اللحظة وليلتها تذكرت ما كان قاله لي الشيخ ياسين عمر الإمام وهو من كبار قادة الحركة الإسلامية في السودان، حيث روى لي كيف أن الإيرانيين كانوا تعهدوا لوفد إسلامي بالحفاظ على الطائرات العراقية التي ستدخل الأجواء الإيرانية تفاديًا للتدمير خلال العدوان الأمريكي، وأنهم نكثوا بعهدهم ولا يجب أن يصدقهم أحد.
كانت زيارة عودة الوعي لي ومن لطائفها أن كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها وزير الخارجية المصري الأشهر عمرو موسى وأن أجري معه أول حوار للصحيفة التي كنت أنتمي لها، ولذلك قصة طريفة كان الصحفيون ممنوعين من الاقتراب من أروقة الوفود الرسمية، فحاولت مرارًا اختراق القواعد الأمنية الصارمة لأؤدي عملي المهني وشكوت لمن أعرفهم من الوفود الرسمية العربية.
فأعانني أحدهم حيث منحني إحدى بطاقات وفد بلاده، وكانت مميزة باللون وصورة من يحملها وقال لي، علق البطاقة مقلوبة لتخفي الصورة وادخل بثقة لحظة الزحام. وقد كان منحني فرصة كاملة للقاء المسؤولين ومنهم عمرو موسى.
وفي لحظة ما كاد الأمن أن يمسك بي، فتدخل الراحل د. توفيق الشاوي ودفعني دفعًا إلى الغرفة حيث كان يجلس ولا يستطيع الأمن دخولها لإلقاء القبض عليّ!

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى