أخبار الرافدين
معاذ البدري

جنين وبوصلة المقاومة الفلسطينية

تمتلك جنين بمدينتها ومخيّمها تاريخًا في معادلة الصراع مع الاحتلال الصهيوني مزدحمًا جدًا بالمواقف والمآثر التي أربكت حسابات الاحتلال وحكوماته على مدى عقود؛ فهي تعد من مدن المقاومة التي تميز أنموذجها بالتفرد والجودة في النوع والكم.
ومن هذا الأصل يتخذ جيش الاحتلال الصهيوني بين حين وآخر مبررًا لضرب هذه المدينة ومخيمها كنوع من الثأر، أو في سعي لما يمكن أن يُطلق عليه “رد اعتبار” على ما فقد من هيبة في منظور مستوطني كيان الاحتلال وداعميه من الشرق والغرب بعدما لقنته جنين وشقيقاتها دروسًا كثيرة على مر الزمن، ألجأته إلى الزوايا الضيقة وحشرته فيها، رغم أنه كان يتفاخر كذبًا بأنه “جيش لا يُقهر”.
يحاول الاحتلال الصهيوني بين حين وآخر أن يُثخن الجراح في جنين لسببين رئيسين، أحدهما: تصفية الحسابات مع المقاومة التي تثبت في كل جولة أن جذوة جهاد أهلنا في فلسطين لن تخبو أبدًا، والآخر: سعيه لتخفيف الضغط عن مشروعه الرامي لتهويد المسجد الأقصى المبارك وتقسيمه زمانيًا ومكانيًا، لا سيّما وأن جنين تُعد من أبرز خطوط الدفاع الأولى لمدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى، وهذا بطبيعته يؤكد حقيقة أن المسجد الأقصى هو مركز القضية الفلسطينية، وعليه تدور كل أحداثها.
إنّ حجم العدوان الذي سُلّط على جنين هذه المرة مختلف عمّا سبق، وإن كان الاحتلال يسعى فيه نحو الهدف ذاته الذي يقصده في كل حملة عسكرية وهو ممارسة الضغط شديد القوة على الشعب الفلسطيني لإجباره على التخلي عن حقوقه وفي مقدمتها حق المقاومة، وحق تجريم الاحتلال، فضلاً عن حقوقه في الأرض والحرية والمقدسات؛ إلا أن النمط المستخدم هذه المرة يُراد له أن يُبقي أثرًا بارز المعالم في الجسد الفلسطيني ويجعل من جنين “عبرة” لغيرها بوصفها مثابة للجهاد، لعل ذلك يخذل الفلسطينيين فيكفوا عن المقاومة في مرحلة تعقبها أخرى تقتضي رضوخًا تامًا لإرادة الاحتلال، وهذا ما لا يحصل ولا يمكن وقوعه مطلقًا في ساحة الصراع مع الاحتلال، لكن الأخير فيما يظهر بات عاجزًا عن تحقيق ما يريد إلا من هذا الطريق الذي يكتشف كل مرة أنه غير نافذ.
حكومة الاحتلال تعاني من أزمة داخلية ومأزق كبير ما تزال وسائل الإعلام بعيدة عن تغطيته أو مبعدة عنها لأسباب وغايات يعرفها الجميع، وهي حين تريد أن تخفف من وطأة الضغوط الداخلية المسلطة عليها في ظل ما يغشاها من فساد وصراعات بين أحزاب الكنيست؛ لا تجد طريقًا لذلك إلا بالإمعان في حجم ونوع الإجرام الذي تصبه على أهلنا في فلسطين، وفي كل مرة سواء في العدوان على غزة أو الحملات العسكرية على جنين، أو تكثيف الاقتحامات للمسجد الأقصى المبارك وإطلاق العنان للجماعات المتطرفة لتبث الإساءات للإسلام ومقدساته؛ تجد حكومة الاحتلال نفسها في مأزق جديد، ومن خيبتها أنها تعيد الإجراءات نفسها دائمًا لتصرف الأنظار عن أزمتها الأصلية مما يعني أنها مفلسة حقًا ولا تملك من وسائل تفكيك مشكلاتها إلا القمع والحرب والعدوان.
جنين ولّادة لا ينقطع نسلها، وهي مثابة في صناعة الرمز الوطني فيها وفي غيرها من مدن فلسطين، وسجيتها في هذا الأمر معروفة لا تذهبها سطوة الاحتلال ولا عدوانه، والزمن كفيل بإظهار ذلك الأمر مهيمنًا على المشهد الفلسطيني؛ لذلك فإن استهدافها من جانب الاحتلال ليس مقتصرًا على العمليات العسكرية فقط والاعتقالات وتجريف المباني، بل يشمل أيضًا الجانب الثقافي والمفاهيمي فيما تروجه وسائل إعلام الاحتلال وما يوازيها من إعلام منحاز له، ومن ذلك ما يُروَّج له في الحملة الأخيرة من قبيل مصطلح “الردع الأمني” الذي يتفوه به الاحتلال الصهيوني وحكومتُه، في محاولة لإغراق مفاهيم الجمهور بما يهيئ الأذهان لتبرير العدوان أو يعطي عذرًا لاستمرار وتكرار العمليات العسكرية، وذلك شبيه تمامًا بتداول مصطلح “الإرهاب” على ألسنة وسائل الإعلام بشكل عام أو في خطابات الأنظمة ذات التطبيع أو لدى حكومات صنعها الاحتلال وسيّرها في بلدان عديدة من أمثال حكومات بغداد المتعاقبة في العراق بعد سنة 2003.
حرب المصطلحات التي يمارسها العدو الصهيوني ومن يُشابهه من قوى الاحتلال في فلسطين والعراق وغيرهما؛ إنما هي وسيلة من وسائل شيطنة المقاومة، وتجريم المجاهدين، وهي نمط من أنماط تجهيل الشعوب فكريًا وثقافيًا من خلال صناعة تصورات موهومة في الأذهان هدفها صرف انتباه الأمة وأبنائها عن واجباتهم الوقتية في مناهضتهم مشاريع الاحتلال، وليس لمصطلح “الردع الأمني” من توصيف معتبر إلا بأنه ادعاء رخيص تختفي خلفه جرائم حرب أدمن الاحتلال الصهيوني على ارتكابها ويريد أن يستحدث لها مبررات تحظى بقبول لدى الرأي العام المتواطئ معه أصلاً.
الناظر إلى واقع العالم منذ الحرب العالمية الأولى وإلى يومنا هذا؛ لا يجد في الموقف الدولي حسنة واحدة يدعم فيها الشعوب المضطهدة ويمنحها حقوقها، أو يعترف بقضاياها، بل ما يحصل هو العكس، من انحياز تام لقوى الاحتلال، وتجاهل مفرط للضحايا، ومنح كل متورط بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية إفلاتًا من العقاب، فضلاً عن التماهي مع المشاريع التي تستهدف أممًا بعينها في وجودها، وقيمها، وتأريخها، ومستقبلها، ولعل الأمّة الإسلامية وقضايا الكبرى في طليعة من يواجه هذا النوع من المشاريع.
فعاليات المقاومة في فلسطين تطوّرت في الآونة الأخيرة إلى عمليات نوعية غير محسوبة الحساب من جانب الاحتلال لأنه كان يظن نفسه مطمئنًا بعد ممارسة سياسة التضييق على فصائل المقاومة وحواضنها في الأراضي الفلسطينية، لكنه أظهر بذلك جهله بحقيقةَ شعب فلسطين، وعدم إدراكه ما فيه من همة وقوة وإرادة وسعي للحرية الخلاص رغم مضي أكثر ثلاثة أرباع قرن على احتلاله.
وهذا يقودنا إلى التركيز على مسألة في غاية الأهمية تتعلق بمجريات ساحة الصراع مع الاحتلال وتتلخص في أن مقاومة الداخل الفلسطيني على قلّة إمكانياتها والتضيق الأمني المشدد على المساحات المتاحة لها، تتفوق بمراحل ذات مديات أكثر اتساعًا مما هو ملحوظ على المقاومة المزعومة التي يدّعيها محور إيران وتتغنى بها ميليشياتها زورًا، لأن سلوك هذا المحور في العراق وسورية وغيرهما، والذي لم يقدم للقضية الفلسطينية شيئًا ملموسًا يستطيع المراقب أن يستنبط منه ما يصدق مزاعمه المعلنة؛ يؤدي بالضرورة إلى أن طلب الدعم من إيران ومن يتصل بها من أنظمة وقوى؛ عبث لا قيمة له في الميدان، وعلى الفصائل الفلسطينية الكبرى أن تتنبه لذلك وتحصن نفسها من الولوج في أزمة تضطرها إلى تقديم مصالح محدودة في المشهد على مصلحة الأّمة الكلية التي هي بالضرورة مصلحة فلسطين، ولتمحو هذه المشكلة وآثارها عليها أن تعيد رسم الخارطة، فتتجه نحو جيل التمكين الفلسطيني احتضانًا ورعاية ودعمًا، لتكون مقاومتها ذاتية خالصة لا متعلقة بمواقف مصطنعة تنتحلها طهران وليس فيها من مخرجات معتبرة سوى عثرات في المسار وتوهان في البوصلة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى