أخبار الرافدين
معاذ البدري

فاجعة الحمدانية ومقاصد أحزاب السلطة

الحديث المستفيض في الشارع العراقي عمّا جرى من مأساة إثر فاجعة الحمدانية يُظهر الحجم الكبير للمصاب الجللالذي اجتاح العراقيين جميعًا؛ والذي يبقى تأثيره ممتدًا زمانيًا ومكانيًا أبعد مما هو متصور في أذهان الناس عامة ولدى من وقعت عليهم المصيبة بشكل خاص.
حينما تتحول الأفراح إلى مآتم، وتُطمر الآمال تحت الرماد والركام؛ وتفقد العائلات أفرادًا منها بالجملة في غضون دقائق ودون أن يكون في حسبانها حصول شيء من هذا؛ فإن ذلك كارثة إنسانية تتفاقم أكثر من غيرها ولا سيما حينما تكون الأسباب التي أدت إليها واضحة ومعلومة ولكن لا سبيل إلى محاسبة المتورطين بها وإنصاف الضحايا وذويهم.
اللافت في الأمر؛ أن السلطات الحكومية في تعاطيها مع الفاجعة جعلت من نفسها صحفيًا يغطي الأحداث وينقل الصورة ويصف المشهد، حينما حاولت ركوب موجة الحدث فقط، دون أن تكون ذات مقدرة على أن تسيّره كما تفعل الأنظمة والسلطات التي تحترم نفسها وتعطي مواطنيها حلولاً في الأزمات، بل في بعض الأحيان ظهر مسؤولون وهم يتعاملون مع الفاجعة مثلما يفعل من يكتب منشورًا على مواقع التواصل على سبيل المثال.
بهذه الطرق البدائية المجردة تمامًا عن المسؤولية تعاطت حكومة بغداد والحكومة المحلية في محافظة نينوى، ولم يكن ثمة إجراء معتبر لا من جانب وزارة الداخلية ولا وزارة الصحة ولا غيرها من المؤسسات ذات الصلة بهذا النوع من الأحداث إلا ما كان في سياق تمثيلي في محاولة لاستمالة عاطفة الناس وبشيء من الاستعراض الإعلامي بغية الحصول على بقعة ضوء تسجل فيها موقفًا لصالحها لا لصالح الضحايا.
حكومات الاحتلال المتعاقبة وفي كل أزمة تشبه فاجعة الحمدانية، تلجأ إلى المراوغة والتدليس حينما يراد منها إظهار الحقائق وبيانُها، وقد حصل ذلك في حوادث طالت المستشفيات من أمثال حريق مشفى ابن الخطيب في بغداد في ربيع سنة 2021م، وحريق مشفى الحسين في الناصرية بعده ببضعة أشهر، علاوة على التكتم التام على أعداد الضحايا وحجم الخسائر الناجمة عن الحرائق المستمرة طوال السنة في المؤسسات والمخازن والأسواق وغير ذلك من مرافق الحياة، وللقارئ أن يدرك إلى أي مدى تغطي السلطات في العراق على هذا النوع من الجرائم حينما يعرف أن عدد الحرائق في البلاد منذ مطلع هذه السنة (2023م) اقترب من حدود العشرين ألف حريق بموجب تصريحات مديرية الدفاع المدني، ولم تظهر حتى اليوم تصريحات معتبرة تكشف عن الأسباب أو تعطي لمحة عن النتائج.
هذا النوع من الحوادث المتكررة التي أزهقت أرواح العراقيين الأبرياء، يتبعه في العادة إفلات المسؤولين عنها من العقاب، والسلطات غالبًا ما تغطي على التفاصيل، وتعمّي الحقائق، بهدف منح المتورط بالجريمة أو المتسبب بها مساحات للتخلص من المسؤولية؛ لأن هذه الحوادث تعد بمثابة شواهد حيّة على استمرار حرب الإبادة ضد أبناء الشعب العراقي التي تتناغم مع السياسات القمعية لحكومات الاحتلال وأحزابها وميليشياتها ضد العراقيين، وإلا ماذا نسمي مسارعة وزارة الداخلية من فورها إلى القول بأن حريق قاعة المناسبات في الحمدانية “ليس حادثًا جنائيًا” ثم تتبع ذلك بالقول إن “التحقيقات ما تزال جارية لمعرفة الملابسات”، فإذا كان الأمر كذلك، لماذا صدر الحكم سريعًا في توصيف الحادث على أنه غير جنائي؟!
مثل هذا النوع من التصريحات التي قد تمر مرور الكرام على المتلقين تكشف طياتُها عن مقاصد أحزاب السلطة والميليشيات في إدامة حالة الفوضى وإبقاء الملف الأمني في العراق ساخنًا، والحيلولة دون بلوغ العراقيين حالة الأمن التام باستمرارية، ولا شك أن هذا كله مقرون بمصالح القوى والإرادات الدولية والإقليمية التي تستخدم أدواتها في العلمية السياسية لبقاء المشهد العراقي بيئة خصبة لمشاريعها.
الفساد الذي يغشى المؤسسات الحكومية له دوره الواضح في وقوع المآسي والفواجع التي تصيب العراقيين، إذ كيف يُسمح لقاعة تخلو من متطلبات السلامة وتنقصها أدوات الطوارئ أن تمارس أنشطتها لو لم يكن ثمة انتفاع متبادل بين مالكيها وأحزاب السلطة وصناع القرار في المحافظة؟! وكيف يجد القائمون عليها سبيلاً لتبرئة أنفسهم من أسباب الفاجعة في الوقت الذي أكّدت مديرية الدفاع المدني في محافظة نينوى بأن قاعتهم إلى القضاء حسب ما يعرف بقانون الدفاع المدني الرابع والأربعين لسنة (2013م) بسبب فقدانها متطلبات السلامة من أمثال منظومات الإنذار والإطفاء وما إلى ذلك؟!
وإذا نظرنا بتمعن أكثر إلى الأحداث نجد أن هذه القاعة واحدة من بين مشاريع كثيرة تحتل بها الميليشيات محافظة نينوى بواسطة المكاتب الاقتصادية التي تعيث فسادًا في الأرض، وهذه المكاتب ذاتها هي التي كانت سببًا مباشرًا في مأساة غرق العبارة في نهر دجلة بمدينة الموصل سنة (2019م)، واليوم تتواتر التأكيدات على أن قاعة الحمدانية ذات الفاجعة هي ملك لواحد من التابعين لميليشيا (بابليون) إحدى تشكيلات الحشد التي تعبث بمناطق سهل نينوى، وترتكب جرائم ضد الإنسانية بحق أهلها من المكون المسيحي، مثلما تفعل نظيرتها المرتبطة بإيران تجاه المكونات الأخرى في مناطق أحزمة بغداد وغيرها من المحافظات الوسطى والغربية من العراق.
المحصلة من هذا كلّه؛ أن من يملك القاعة ويتكسب منها، والسلطات التي منحته تفويضًا بالعمل رغم افتقارها لأدوات وشروط السلامة؛ هما وجهان لعملة واحدة.
ومن بين مآسي العراقيين؛ أنهم اعتادوا على أن يكون للسياسيين والمسؤولين وأصحاب النفوذ مواسم للترويج الانتخابي، ويتمادى هؤلاء أكثر في استلال البطولات الزائفة من دماء العراقيين، والأصل في السلطات والحكومات التي يمكن وصفها بأنها ذات قيمة، أن تبادر إلى نجدة الناس في أوقات الأزمات والنكبات، لكن القوم عندنا في العراق، لا ينظرون إلى مصائب الناس إلا من زاوية مصالحهم ومكاسبهم السياسية.
إن الذين سارعوا إلى مكان القاعة المنكوبة لم تكن لهم دوافع إنسانية بقدر دوافعهم السياسية ومآربهم الانتخابية مع قرب انتخابات مجالس المحافظات والصراعات الكبيرة التي تجري على أرض محافظة نينوى على وجه الخصوص، ولو أجريت مقارنات سريعة بين الأحداث؛ فلن يحصل المجتهد في البحث على موقف يكشف فيه عن مسارعة أحد من المسؤولين أو الوزراء إلى مشفى ابن الخطيب في بغداد أو مشفى الحسين في ذي قار حينما اجتحتهما النيران وقضت على عشرات المرضى، ولم يقترب أحد من موقع غرق العبارة في الموصل حينما ابتع نهر دجلة ضحايا جلهم من النساء والأطفال؛ لأن الحوادث تلك لم تقع في موسم انتخابات أو في توقيت يتطلب جني مكاسب سياسية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى