أخبار الرافدين
بلاد النهرين عطشىتقارير الرافدين

أهوار العراق تجف من مائها ونزوح سكانها

أزمة نزوح سكان الأهوار تلقي بضلالها الثقيلة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتستدعي بشكل ملح وضع خطط سريعة للنهوض بملف الخدمات في المناطق التي يتوجه إليها النازحون والتي تعاني بالأساس من تردي الواقع الخدمي.

ذي قار – الرافدين

أثار إعلان وزارة البيئة نزوح نحو 70 ألف أسرة من مناطق الأهوار خلال هذا العام بسبب شح المياه تساؤلات حول مدى جدية الحكومة في وضع الحلول الناجعة لمعالجة أزمة الجفاف وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية على المشهد في العراق الذي عانى من أزمات النزوح جراء الاحتلال وانهيار الأمن وتفشي الطائفية وتغول الميليشيات.
وبينت الوزارة على لسان وكيلها جاسم الفلاحي أن الجفاف تسبب بتدهور غير مسبوق لبيئة الأهوار وتقلص الأراضي الزراعية، ما أدى إلى خسارة 68 بالمائة من الأراضي التي كانت صالحة للزراعة.
وأضاف الفلاحي أن سكان الأهوار فقدوا سبل العيش بعد أن كانوا معتمدين على الزراعة وتربية الجاموس وصيد الأسماك والطيور، وأن هذا النزوح الداخلي قد يكون مبررًا لإنشاء عشوائيات على أعتاب مدن تعاني من نقص كبير بالخدمات.
وجاء إعلان وزارة البيئة حول الهجرة من الأهوار متناسقًا مع إعلان مماثل لرئيس حكومة الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني، في “مؤتمر العراق للمناخ” في آذار الماضي حينما أكد فيه أن 7 ملايين شخص نزحوا من مناطقهم جراء الجفاف الشديد.
وتعرف الأهوار التي يتفرّد فيها العراق بكونها مسطحات مائية ضخمة تستمدّ مياهها من نهري دجلة والفرات بصورة رئيسة، وتمتد في محافظات ذي قار وميسان والبصرة والمثنى ومناطق حدودية مع إيران جنوبي البلاد وجنوب شرقيها.
ومن أبرزها أهوار الجبايش والحمّار والشيب والدجيلة، وهي تضمّ أنواعًا عديدة من الطيور والأسماك والنباتات المائية ونبات القصب والبردي، فيما تعيش حولها آلاف الأسر العراقية على الزراعة وصيد السمك وتربية المواشي وسبق أن صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) في 2016، تراثًا عالميًا.
وخلال العقد الماضي، فقد العراق نحو نصف مساحة الأهوار بسبب تراجع المياه وعدم توصّل الحكومات المتعاقبة إلى حلول نهائية بشأن حصص العراق المائية مع دول المنبع فضلًا عن سوء إدارة ملف المياه جراء الفساد المستشري والإهمال.
وساهمت هذه العوامل مجتمعة بتلاشي حضارة سكان الأهوار ودفعتهم للهجرة في وقت تشير فيه آخر التقديرات إلى أن مساحة الأهوار تبلغ اليوم حوالى 4 آلاف كيلومتر مربع، بتراجع عن 20 ألف كيلومتر مربع خلال تسعينات القرن الماضي.

الجفاف والتغير المناخي يهدد التنوع البيئي في الأهوار ويدفع سكانها نحو الهجرة

ويحذر خبراء بيئيون من أن الخطر العاصف بالأهوار، سيمتد لتدمير واحدة من أبرز معالم العراق الطبيعية الموغلة بالقدم، والإخلال بالتوازن البيئي لمناطق شاسعة.
ويرى الأكاديمي والخبير باستراتيجيات المياه الدكتور رمضان حمزة، أن الأهوار لطالما مثلت رئة العراق، وشكلت جزءًا محوريًا من دورة هيدرولوجية عالمية ومحطة مهمة في هجرات الطيور حول العالم، بحيث مثلت عامل توازن بيئي وعنوان تنوع أحيائي ثري.
ويضيف أن الأهوار إبان انتعاشها حينما كانت الدورة الهيدرولوجية مكتملة العناصر، من مياه وتبخر وحركة مائية تتجدد باستمرار، تسهم في خفض درجات الحرارة بواقع نحو 6 درجات مئوية، عن باقي المناطق المحيطة، وهو رغم كونه قد يبدو خفضًا بسيطًا نسبيًا لكنه بالنظر للحرارة المرتفعة التي يشتهر بها العراق وخاصة في الوسط والجنوب، يحدث فرقًا ملموسًا.
بدوره يصف مدير مركز “تمكين السلام” عمر النداوي الوضع المائي في العراق بأنه “مأساوي” فمستوى المياه في نهري دجلة والفرات تدنى بدرجة كبيرة، والملوحة دمرت مساحات واسعة من مزارع الجنوب، ومنطقة الأهوار تقريبًا في طريقها للزوال.
ويرى أن مشكلة سوء إدارة الموارد المائية تسبب في تفاقم الأزمة، مشيرًا إلى أنه بالنظر إلى موازنات العراق في السنوات الماضية، ستجد أن وزارتي الموارد المائية والزراعة الأقل تمويلًا، في حين تحصل وزارات ثانوية على حصص أكبر.
ويستسلم الكثير من سكان الأهوار ويغادرون إلى المدن بحثًا عن ظروف مناسبة للعيش وبحثًا عن مهن أخرى بعد تأثر مهنهم التقليدية بأزمة الجفاف.
وفي هذا السياق تؤكد أم حسن مربية المواشي في أهوار الجبايش بمحافظة ذي قار جنوب العراق استبدال مهنتها نحو صناعة الحصران بعد أن دفعها الجفاف نحو ذلك حتى أصبحت الظروف المعيشية عليها غير يسيرة.
وتنظر أم حسن مربية المواشي بنظرة منكسرة إلى الجاموس الذي هلك نتيجة الجفاف مما أثر على واقعها المعاشي لتبحث عن حلول لعلها تصل الى نتيجة تسهم في بقائها بعد أن ارتحل العشرات من العائلات نتيجة الجفاف ونفوق المواشي.
وبقيت نظرات أم حسن الستينية قلقة غير مطمئنة لواقعها فهي تشك من وجود حلول تلوح في الأفق سواء عن طريق دفعات ماء تزرع في نفسها الأمل للبقاء، فهذه المواشي وبعض النباتات التي تخرج في الأهوار هي المصدر الأساسي لمعيشتها وبقائها في هذه البيئة التي توارثتها عن آبائها وأجدادها .
وعمدت هذه السيدة المثقلة بالهوم وبمساعدة ابنتها إلى صناعة الحصيرة القصبية التي تتم عن طريق القصب والبردي وهو أحد النباتات الطبيعية التي تخرج من دون تدخل الإنسان اذ تقطع مسافات طويلة تصل إلى 3 كيلو مترات من الصباح للوصول لغرض الحصول على هذا النبات، بعد أن كان محاطًا بهم من كل جانب قبل أن تتسبب الشحة المائية في عدم انباته.

الجفاف يدفع بنسوة الأهوار إلى ترك مهنهن التقليدية والبحث عن مهن أخرى لتأمين قوت أسرهن

بدوره يستعرض وليد خضير وهو واحد من هؤلاء الذين هجروا الأهوار مع زوجته وأطفاله الستة “قبل أربعة أو خمسة أشهر”، أوضاعه المأساويه حيث يقطن مع أفراد أسرته في بيت بحالة يرثى لها.
ويضيف خضير البالغ من العمر 30 عامًا آسفًا “حياتنا هناك وأهلنا عاشوا هناك وأجدادنا لكن ماذا نفعل؟ لم يعد هناك من حياة” في الأهوار.
ويسعى هذا الرجل الذي بدى التعب واضحًا على معالم وجهه الآن لتسمين جواميسه ليتمكن من بيعها، لكن أسعار الأعلاف التي كانت موجودة بوفرة سابقًا بالأهوار، باهظة كثيرًا.
ويقول خضير “إذا عادت المياه وعاد الوضع كما كان عليه سابقاً، نعود لنعيش هناك”.
ويتفق هاشم كاصد 41 عامًا، مع ما ذهب إليه وليد خضير بالقول إنه لم يعد قادرًا على تحمل تبعات الجفاف الذي بات يهدد مهنته كمرب للماشية، إذ خسر نصف قطيع الجاموس الذي يمتلكه العام الماضي، ومع تحول تلك المناطق من أرض وفيرة بالمياه إلى يابسة قاحلة، يدرس كاصد الانتقال مع عائلته المكونة من ثمانية أفراد إلى مدينة ميسان.
وحول حجم الخسائر التي تواجه سكان الأهوار يقول كاصد إن “عددًا كبيرًا من الأهالي أقدموا على بيع الماشية بسبب ندرة المياه وارتفاع أسعار العلف، وعلى المستوى الشخصي نفق نصف ماشيتي العام الماضي بسبب الجفاف، وأسعى لبيع ما تبقى لدي من جواميس والانتقال إلى مدينة ميسان التي تبعد 60 كيلومترًا تقريبًا من مكان إقامتي”.
ويمضي هاشم كاصد وهو أحد سكان أهوار الحويزة بحديثه “أعيش على الراتب الشهري الخاص بالرعاية الاجتماعية 180 ألف دينار عراقي وهو مبلغ لا يكفي حاجات أسرتي بعدما فقدت مصدر دخلي القائم على صيد الأسماك وتربية الماشية وصناعة الحصر القصبية”.
ويحذر خبراء اقتصاديون من أن الخطر سيمتد ليشمل حدوث هجرات جماعية أكبر لسكان مناطق الأهوار نحو مدن ومناطق أخرى ما يقود لاندثار مجتمع الأهوار من جهة، ويتسبب بضغوط كبيرة ديمغرافيًا واقتصاديًا وخدميًا على المدن والبلدات، التي يقصدها سكان الأهوار من جهة أخرى.
ويرى الخبير الاقتصادي أحمد الخفاجي، أن “عواقب التحديات المناخية التي يواجهها العراق، لاسيما تلك المتعلقة بندرة المياه، لها آثار بعيدة المدى، وتتطلب اتخاذ إجراءات رسمية منسقة لتخفيف الاحتياجات، وتجنب مزيد من النزوح، ومنع تفاقم المشاكل الاجتماعية القائمة”.
ويؤكد الخفاجي ضرورة اتباع نهج ذي شقين لتعزيز قدرة المناطق التي تشهد تدفقًا سكانيًا على التكيف، وفي الوقت ذاته تقديم الدعم إلى المناطق الريفية التي تهاجر منها الأسر بسبب التدهور البيئي الشديد، وانعدام فرص العمل، والدمار الاقتصادي الكبير.

رئة العراق ومتنفسه الطبيعي يحتضر جراء الجفاف والإهمال الحكومي وغياب الحلول

بدورها تؤكد وزارة التخطيط الحالية أن الهجرة إلى المدن مستمرة منذ عقود، لكنها زادت في السنوات الأخيرة بسبب قلة الإطلاقات المائية في نهري دجلة والفرات، فضلًا عن قلة هطول الأمطار في أنحاء البلاد.
ويقول الناطق باسم الوزارة، عبد الزهرة الهنداوي إن “فرق الوزارة تُشخّص باستمرار عمليات الهجرة نحو المدن، وقد سجلت اختفاء بعض القرى نتيجة التغيرات المناخية، وانعدام فرص العمل، الأمر الذي يدفع السكان إلى البحث عن خيارات بديلة في سوق العمل المتنوع في المدن”.
ويضيف الهنداوي أن “الهجرة من مناطق الريف تسببت في إحداث تغيير ديموغرافي كبير، وترتب عليها نشوء وحدات سكنية غير نظامية أو عشوائية على أطراف مراكز المدن، وبين ضواحيها، ما أدى إلى ضغط كبير على البنية التحتية لتلك المدن، إلى جانب تفاقم الأزمات الاجتماعية بين الوافدين من المناطق الزراعية وبين سكان المدينة الأصليين.
ويتابع “أزمة ندرة المياه تسببت أيضًا في اختفاء بعض المهن، وظهور مهن أخرى، ما دفع الفلاحين إلى اللجوء إلى تلك الأعمال، وهذا الأمر ولّد ضغطًا كبيرًا على سوق العمل”.
وسبق أن حذّر تقرير أممي من خطر “الاضطرابات الاجتماعية” التي قد تنشأ عن العوامل المناخية في العراق.
وأشار التقرير الصادر في نيسان الماضي إلى ضعف الخدمات العامة والفرص الاقتصادية الكافية ويرى أن التحضّر والانتقال إلى العيش في المدينة بفعل المناخ قد يؤدي إلى تعزيز هياكل قائمة مسبقًا من التهميش  والإقصاء.
وتعد الأمم المتحدة الاضطرابات المناخية سببًا يؤدي إلى “اضطرابات اجتماعية”، إذ يمكن للتوسع المدني الذي “تتسبب به التغيرات المناخية وحركة النزوح في ظل غياب الخدمات العامة والفرص الاقتصادية، أن يعزز ممارسات التهميش والإقصاء”.
وتتزايد على وقع هذا التحذير الأممي، المخاوف المحلية من حدوث جفاف كامل للأهوار، بسبب ارتفاع الحرارة واحتباس الأمطار على وقع التغير المناخي الذي يضرب العراق بقوة خلال الأعوام القليلة الماضية وبصورة غير معهودة، حيث يعد خامس الدول الأكثر تضررًا من التغيرات المناخية العالمية وفق وزارة البيئة العراقية والأمم المتحدة.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى