أخبار الرافدين
داود الفرحان

مَن كان وراء حلّ الجيش العراقي واجتثاث البعث؟

مسلّة داود الفرحان: بعد أكثر من عشرين عامًا بدأت أوراق الحرب الأمريكية – البريطانية على العراق تتطاير بين مسؤولي الخارجية والدفاع والمخابرات لتحديد المسؤولين عن الفوضى التي رافقت الأيام الأولى للحرب في عام 2003. وسرعان ما أصبح العراق مسرحًا للمنازلة بين أنصار الدبلوماسية من جهة وصقور الحرب في البنتاغون من جهة ثانية.
في اليوم الأول من شهر أيار 2003 أعلن الرئيس الأمريكي في حينه جورج بوش الابن على متن حاملة الطائرات “يو. أس. أس. إبراهام لينكولن” انتهاء العمليات القتالية الرئيسية أمام لافتة كُتب عليها: “المهمة أُنجزت”. لكن ثبت بعد ذلك أن المهمة لم تُنجز حتى اليوم.. بعد عشرين عامًا، ومازالت الفوضى والحرب الطائفية الأهلية والاغتيالات وتوالي الحكومات غير المؤهلة هي البصمة التي تطبع كان وأخواتها.
إلى الآن ثمة علامة استفهام كبيرة أمام ما حدث: من وقف أمام أو خلف أوامر الفوضى الشفهية وأهمها: من الذي حلّ الجيش العراقي؟ ومن أمر باجتثاث البعث؟
كشفت مجلة “فورن أفيرز” أن الذكرى العشرين للاحتلال لم تمر دون جدل كبير داخلي وخارجي ليس فقط بشأن أسباب الاحتلال ودور مختلف الأطراف فيه سواء صنّاع قرار الحرب في واشنطن أو منفذيه على أرض العراق. مازال الجدل قائمًا: كيف صاغوا هذين القرارين وأين صاغوهما ومن ساهم في ذلك؟ لأنهما أثرا بشكل حاسم في كل مجريات ما حصل في العراق خلال العقدين الماضيين.
لقد ضغط السياسي أحمد الجلبي على إدارة بوش من أجل “اجتثاث” أكثر شمولاً، لكن ذلك أدى إلى تراكم الشكاوى في الأيام التالية. في أول يوم وصل فيه الجلبي إلى بغداد بسيارات أرقامها كويتية قادمًا من مدينة الناصرية جنوبي العراق، حيث هبطت طائرات هليكوبتر في تلك الصحراء القاحلة، وبعد دقائق تبين أنه يبحث عن رئيس تحرير لجريدة “المؤتمر” حتى وإن كان بعثيًا، وفعلاً وجد صحفيًا بعثيًا أدى المطلوب.
المهم في هذه الإشارة إلى الجلبي أنه لم يرفض التعاون مع أحد الرفاق الثانويين لأن ذلك من مصلحته، إلا إن التعاون لم يستمر فترة طويلة. وفي الوقت نفسه كان الجلبي قد قدم إلى بول بريمر مسودة قرار لاجتثاث البعثيين وحزب البعث! هل هي ازدواجية المصلحة الشخصية؟ ربما. لكنها واحدة من متناقضات فوضى الاحتلال الأمريكي. كان الجنرال جي غارنر، وهو من أصول مكسيكية، مكلفًا بالإشراف على “إعادة إعمار العراق” بعد الحرب، وأحيل إلى التقاعد بعد أن عَيّن جورج بوش الابن، الدبلوماسي الأمريكي بول بريمر رئيسًا للإدارة الأمريكية في العراق. وفي عهده برزت مفارقات التنافس على النفوذ بين وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين لأن بريمر أصبح أعلى مسؤول أمريكي مدني في العراق. وتحولت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عهد بوش نحو “العدوانية” وشن حروب استباقية.
وأصبح العراق المحتل مسرحًا للمنازلة بين أنصار الدبلوماسية وصقور الحرب في البنتاغون. وفي مرحلة لاحقة فرض وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أوامره على وزارة الخارجية إلى أن استقال في 8 تشرين الثاني 2006. وفي عهد رامسفيلد وبريمر والسفراء اللاحقين تم طيّ ورقة أي إعادة لإعمار العراق منذ ذلك الحين إلى اليوم. وهذا جزء من تناقض القرارات وفوضى المسؤوليات التي بدأت بحل الجيش العراقي واجتثاث البعث وبدايات الرياح الإيرانية الانتقامية وتغلغل الحرس الثوري وفيلق القدس وانتشار الميليشيات الموالية لإيران في كل العراق وتفشي الفساد من البنك المركزي إلى النفط الى خديعة الاستثمارات والإنفاق المتهور بلا حساب ولا كتاب.
ذهب الأمريكيون بعيدًا في عقوبات الاجتثاث، وتأثروا بما جرى في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع أن العراق لم يكن البادئ بالحرب، وكذلك تجربة إعادة بناء دول أوروبا الشرقية بعد سقوط الستار الحديدي للاتحاد السوفيتي. وفكر الدبلوماسيون الأمريكيون في بغداد بتحديد ثلاث مستويات عليا من القادة البعثيين يتم استبعادهم من مسؤولية العراق المستقبلية، على أن يتم في شأن المستوى الرابع النظر في كل حالة على حدة. وكل هذا الذي يبدو “شبه مزاح سياسي ثقيل الدم” صار في خبر كان بعد أن انفرد السياسيون الموالون لإيران بالحكم وعمموا الاجتثاث و”المساءلة والعدالة” والتصفيات لتشمل أساتذة الجامعات ومدراء المدارس وأطباء المستشفيات والقضاة والإعلاميين والسفراء. ولو كانت في العراق وكالة فضاء لتم اجتثاث رواد الفضاء.
يقول بريمر إنه كان يشعر بالثقة مع سلطته الرئاسية الكبيرة لتحقيق “تغيير دائم” في العراق. لكنه تراجع فور إلغاء الخطط الأمريكية الأكثر تفاؤلاً لعراق ما بعد الحرب حين طالبه أعضاء مجلس الحكم في أول اجتماع للمجلس بصرف رواتب عالية لكل منهم.
كان بريمر يريد الخروج من تلك الدوامة بأسرع وقت ممكن. وهذا ليس مديحًا له لكنه أحد مآزق حالة الفوضى. لم يكن تسريح الجيش العراقي بصنوفه العديدة سهلاً. كذلك حين ناقش بريمر مسودة اجتثاث البعث مع قادة عسكريين أمريكيين على الأرض واجه مقاومة فورية. وصرخ غارنر “لن نتمكن من إدارة هذا البلد”. وأضاف قائلاً أمام بريمر “سيكون لدينا في بغداد 50000 عدو قبل غروب الشمس”.
لقد ثبت لبريمر أن الآمال المبكرة بأن الجيش العراقي السابق “قد” يساعد الأمريكيين اختفت، ورحل الجيش وذاب أفراده، ونُهبت أو دُمرت منشآته وعتاده وأسلحته. وبلغة البنتاغون “لقد قام الجيش العراقي بتسريح نفسه”.
فعلاً أن فهم واستيعاب ما جرى في تلك الفوضى الإحتلالية سجل أول هزيمة أمريكية في تلك الحرب: الاجتثاث فَرّغ العراق من علمائه وخبرائه وعقوله ومستقبله قبل حاضره. وحلّ الجيش العراقي هو الباب الذي تسللت منه الميليشيات الإيرانية والإرهابي قاسم سليماني في فترة انعدام الوزن.
لقد كانت تلك هي البداية ولم تأت النهاية بعد.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى