أخبار الرافدين
داود الفرحان

عملة هذا الزمان

مسلّة داود الفرحان: هل تدهشكم عناوين الصحف؟
لم تعد تدهشنا مثلما صارت تدهسنا؛ فقد اعتدنا الرياح الشرقية والأمطار الغربية والثلوج. وأحيانًا كلها معًا كما كنا نصرخ في المظاهرات ذات اليمين وذات اليسار. أنا لست هيكلا ولا شيطانًا ولا ملاكًا.
ببساطة أنا “جينار” مجرد عملة قابلة للاشتعال والاستبدال والمقايضة والاستدانة والتسديد وخراب البيوت أو إعمارها. أتنقل بين الناس بلا جواز سفر ولا وثيقة إقامة ولا تأشيرة أو (فيزا) ولا تذكرة قطار أو طائرة ولا أختام كمارك أو عبر وديان الجبال.
وقبل ذلك قلت اسمي “جينار”. أنا عملة ورقية خليط من الدينار والجنيه والليرة والين الياباني واليورو الأوروبي والفرنك الفرنسي والفرنك السويسري. بل حتى اليوان الصيني، وفي دولة الزورخانة التومان الإيراني. أتعامل بكل اللغات. ويمكن أن أتعامل بعملات معدنية تثقل الجيوب أو تثقبها.
دخلت جيوبًا نظيفة من قلة الاستعمال. ودخلت جيوبًا نظيفة من كثرة الاستعمال! لا أميّز بين جنس وآخر. أو طائفة وأخرى. أو دين وآخر. أحاول إرضاء كل الأطراف فلا أرضي أحدًا.
ضعف النظر يؤدي أحيانًا الذهاب الى أناس لا يستحقون الزيارة. والابتعاد في أحيان كثيرة عن أناس يسعدون جدًا بزيارتي. أجد نفسي أحيانًا في جيوب مثقوبة فأتسلل منها الى الطريق. وأجدني أحيانًا أخرى في جيوب تشكو من مرض نقص المناعة فتنتشلني منها أصابع ماهرة في زحام الطريق. قصر نظر! بل قصر نظر وقلة حظ! إلا أني أسمع من يقول إنه بعد نظر وزيادة حظ!
تعرفت في حياتي الى بشر من كل صنف ولون. عرفت أسرارًا كثيرة. وأغمضت عيني عن أسرار أكثر. شاركت في صفقات مشروعة وغير مشروعة. اشتريت ضمائر وقلوبًا ونفوسًا. وبعت بيوتًا وأحلامًا وكوابيس.
سألت رجلاً ذات يوم: لماذا هذا الجفاء بيني وبينك؟ قال: إنك تصيبني يا “جينار” بحساسية عجيبة. كلما وصلتَ الى يدي إنتابتني حُمّى غريبة: صداع في الرأس. وألم في الأعصاب. وهرش في الذراع. وفراغ في المعدة. بيني وبينك ود مفقود. حرب باردة. سباق تسلح. أنت تتسلح بجيوب الآخرين وأنا أتسلح بالصبر. غير أن الصبر ليس دائماً مفتاح الفرج. أنه في أحيان كثيرة قفل الفرج أو مفتاح النكد. لكني تعودت الصبر لأني لا أملك استبداله. ليس في طاقتي أن أفعل أي شيء إلا الصبر. والصبر كما تعلم يا سيدي “جينار” لا يحتاج الى دفاتر صكوك ولا بطاقات إئتمان ولا عملات صعبة. أنه نوع من فقدان الشهية. أن ترى أمامك ما لذّ وطاب فلا تجد شهية لإلتهام أي شيء. أن ترى أمامك كل إغراءات الدنيا فتتسلح بذكر عمنا الطيب أيوب. ألا تلفت نظرك يا سيدي وسيد ساداتي أن شجرة الصبّار هي سيدة أشجار الصحارى الصعبة؟
وسافرت الى بلد بعيد يومًا من الأيام وسألت سيدة من تلك الديار عن علاقة أهلها بي. فقالت: إنهم يشبهون أي قوم في أي بلد. بعضهم يموت جوعًا. وبعضهم يفطس تخمة. بعضهم يقف إحترامًا لك. وبعضهم يهرب فزعًا منك. بعضهم يؤمن بشعار: إصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب. وبعضهم يؤمن بشعار: القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود. نفوس مختلفة متناقضة. مصالح منفصلة متعارضة. مشارب وشوارب من كل الأنواع. قبائل وعشائر وعوائل يجمع بينها الحب ويفرق بينها الجينار.. يا جينار!
ما الذي جرى؟
هل قرأتم عن الفيلسوف الأسيوي الذي أحرق نفسه إحتجاجًا على ديون العالم الثالث؟
نعود إلى البداية هل تدهشكم عناوين الصحف؟ هل يلفت إنتباهكم موجز الأنباء؟ هل يعني لكم طلوع شمس يوم جديد أمرًا جديدًا؟ هل يضحككم أن تسمعوا أن شابًا في العشرين من العمر رفض سيدة في الثمانين؟
لماذا يتطلع الناس الى هواتفهم كثيرا.. ويأكلون كثيرا.. ويثرثرون كثيرا.. وينامون كثيرا.. ويَصدقون قليلًا؟
إن الموضوع بحاجة الى ندوة عادلة عن المطاولة والاستدامة و”حزام الظهر” الذي يسند العمود الفقري كلما حمى الوطيس وإرتفعت الأسعار في بنك مركزي أو مقهى شعبي أو مطعم شاورما.. بكل العملات واللفات.
هذه الحكاية تبدأ من جيب السروال، أو المحفظة أو البنك المركزي أو البنوك الرسمية أو البنوك الأهلية أو الخزانات الشخصية أو، وهذا الأهم، حقول النفط أو المطارات الدولية أو الروليت أو الفساد المالي من الجينار إلى مناجم الذهب التي دفعت ملك الكوميديا في العالم شارلي شابلن وهو يبحث عن الذهب في أحد أشهر أفلامه إلى إلتهام حذائه.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى