أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

عدنان حمد.. عراقي بدرجة امتياز

في مقدمته الشهيرة يقول ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع وواضع أصول فلسفة التاريخ، إن الناس في السكينة سواء فإن جاءت المحن تباينوا. ولعل محنة العراقيين في مواجهة الاحتلال الأمريكي منذ واحد وعشرين عاما، كانت ولازالت تشبه الغربال الذي يفرز الطالح عن الصالح، فيحضر قول المتنبي: وبضدها تتبين الأشياء. وقول دوقلة المنبجي في قصيدته اليتيمة: والضد يظهر حسنه الضد.
والضد هنا عراقي بدرجة امتياز اسمه عدنان حمد، لم يهرب عند هبوب العاصفة بل خرج ليواجهها مختزنا كل مفردات التربية والقيم النبيلة التي تربى عليها في ذلك البيت العراقي الكريم في مدينة سامراء، وفي (سوق مريم) ذلك السوق العتيق في تلك المدينة العريقة التي بناها من انتخى عام 838 لنداء امرأة عربية تسكن مدينة عمورية البيزنطية، وصل صوتها إليه وهو (المعتصم بالله) ثامن الخلفاء العباسيين، محمولا من أعرابي قال: يا أمير المؤمنين كنت بعمورية فرأيت امرأة عربية تساوم علجا من الروم في بضاعة، فاختلفا فصفعها على حر وجهها، فصرخت: (وامعتصماه). فضحك العلج وقال: انتظريه حتى يأتيك على حصانه الأبلق لينصرك.
كان الطفل الأصغر في عائلة تعلم فيها من والده وكل أسرته وأبناء الحي الذي يعيش فيه، دروس التراحم والمحبة والاحترام والقيم العالية الصادقة، فكانت ذخيرته التي حملها وهو يركض في أزقة تلك المدينة (التي أحبها وأحبته) مطاردا تلك الكرة التي عشقها ولم يمنعه والده أو أحد من أهله عن ذلك، وقد لمسوا شغفه بها وشكلت فيما بعد جانبا كبيرا من حياته ودراسته وعمله حتى صار ذلك اللاعب الذي أستحق في منتصف ثمانينيات القرن الماضي لبس قميص منتخب العراق، ثم صار في سنوات لاحقة ذلك المدرب الأنيق والمتعلم والرصين فدرب حتى المنتخب الذي كان أحد لاعبيه، ولم يكن حصوله على شهادة الدكتوراه في التربية الرياضية عام 2013، إلا جزءا طبيعيا من مسيرة متألقة واعدة قادها بالإصرار والفكر الصحيح إلى أن تحجز لها مساحة متميزة في تاريخ العراق الذي لا يقتصر على الجانب الرياضي بل الإنساني منه والسياسي والوطني، خاصة وأن أطروحته لنيل الدكتوراه كانت عن إعداد المنتخبات الوطنية في ظل الاحتلال، وهي دراسة تحليلية لواقع إعداد المنتخب الأولمبي العراقي قبل أولمبياد أثينا عام 2004، وقد كانت قصته مع ذلك المنتخب الاولمبي مادة أساسية لكتابه (ملاعب محتلة) الذي حمله لي ساعي البريد في الغربة، ففرحت وأنا أفض عنه ذلك الظرف الذي كان يغلفه، ثم ليجعلني ذلك الكتاب أذرف الدمع وأنا أقرأ سطوره التي جسدت جوانب من ذلك الألم العميق ومحنة الاحتلال التي ستبقى معنا وتكذب مقولة: الزمن كفيل بكل الجروح ومع الوقت تمحى حتى الآثار والندوب، وقد حرر ذلك الكتاب ببراعة كبيرة وبلغة رصينة وبسيطة ذلك الصحفي اللامع هادي عبد الله، بكل ما يختزن من مهنية وخبرة سنوات عمل عديدة في مهنة الصحافة، وبالمعرفة الوثيقة والصداقة التي تجمعه بصاحب قصص الكتاب ومادته.
إن كتاب (ملاعب محتلة) جعلني أدرك تماما كيف يمكن لكرة القدم أن تكون ليس مجرد لعبة تتقاذفها الأرجل، فقد عرضت فصول الكتاب وأوراقه كيف أن تلك الكرة صارت سياسة وتجارة ومالا، وقد صارت أيضا علما وثقافة ونمط حياة. وإذ هي هكذا فأنها صارت وسيلة من الوسائل المهمة في تكوين الرأي العام وصناعة السعادة والحزن وعنوان التحدي.

أخلاقي في التدريب وملهم في كرة القدم
في مقابل أن هناك عقول غير سوية تستعملها في اشاعة الأحقاد والعنف وتستغلها في التغطية على قضايا مهمة ومصيرية عند الشعوب.
الرحلة بين أوراق كتاب ملاعب محتلة تجعلك تعيش دقائق أحوال من يتحدث عنهم عدنان حمد (وهو منهم) والمشاعر التي يختزنونها، إذ يتدربون في ملاعب خربها الاحتلال وإذ يمضون في طرق مزروعة بالخوف والريبة والترصد والرصاص وإذ تطوي بهم الحافلة في دروب خطيرة يغطيها دخان العربات والمدرعات والدبابات التي تشتعل فيها النيران بفعل مقاومة العراقيين الباسلة والجثث المحترقة التي تتناثر هنا وهناك راسمة صورة الموت البشعة التي تجسدت بالنار والصواريخ والبنادق والرصاص.. وهي صورة تجمع حال وطن مستباح بالاحتلال ومقاومة باسلة وكتيبة رياضية تعبر عن جانب من مقاومة العراقيين للمعتدي الذي يسعى إلى إسقاط معنى الوطن. كتيبة يقودها عدنان حمد وسط كل هذه المخاطر والأهوال، معبرة عن انتماء حقيقي وليس كما أراد البعض من الوافدين مع الاحتلال في إظهار اهتمام زائف بالمنتخب الأولمبي العراقي الذي يخطو نحو أولمبياد أثينا وبعموم الرياضة العراقية، كجزء من لعبة كسب المال والوجاهة والشهرة (داخل العراق وخارجه) ومحاولة للاستحواذ على إدارة الرياضة العراقية بعد الاحتلال، وطبعا لتسويق صورة غير حقيقية عن إنسانية وحضارة واهتمام للمحتلين بأحوال العراقيين واهتمامات وطنهم، مثلما فعل سيئ الصيت الحاكم الأمريكي للعراق (بول بريمر) يوم جاء لزيارة المنتخب الأولمبي العراقي وهو يتدرب، وأحتل بقناصته وجنوده (الذي كانوا يرسمون صورة العصابات بأبشع صورها) بملعب التدريب، ويوم نزل بطائرته في الملعب مستعرضا عضلاته فيما يسمى الاحتفال بحصول المنتخب الاولمبي العراقي على المركز الرابع في أولمبياد أثينا، وهو يشارك رئيسه بوش الصغير الذي كان لا يترك مناسبة إلا وتحدث فيها عن ذلك المنتخب العراقي، محاولا تسويق قصة كاذبة عن اهتمامهم بالعراق والعراقيين والتطورات التي يدعي أنها حصلت للعراق بعد الاحتلال ومنها النتائج التي يحققها ذلك المنتخب العراقي، متجاهلا حقيقة أن كل العراقيين يعرفون أنه منتخب العراق وأنه نتاج سنوات عمل مضت سبقت الاحتلال وأن من يدربه عراقي اسمه عدنان حمد وأن ما يصرف عليه (وإن كان زهيدا جدا) ليس من أموال وخزينة أمريكا، بل من خزينة وأموال العراقيين.
لقد جسد عدنان حمد في كتابه (ملاعب محتلة) صورة العراقي الحقيقي الذي عبث الاحتلال بوطنه وعبث ببيته في شارع حيفا في بغداد وهدد حياته واضطره للخروج من العراق والعيش بعيدا عنه، دون أن يستطيع ثلم عراقيته وانحيازه التام لوطنه وأهله، ليظل سفيرا وعراقيا بدرجة امتياز لوطنه وهو يدرب منتخبات بلدان أخرى وأندية معروفة في هذا البلد أو ذاك.
لقد كانت الرحلة مع سطور كتاب (ملاعب محتلة)؛ ممتعة ومؤلمة مع كتيبة من شباب عراقي جميل يقودهم عدنان حمد، وهم يقطعون آلاف الكيلومترات في حافلات يحيط بها الموت، غير مبالين بتعب ومخاطر كانت رفيقا لهم وهم يذهبون لملاعب يقولون فيها للجميع إن كرة القدم ليست مجرد لعبة فيها فائز وخاسر.. إنها بالنسبة لنا إعلان حياة ومقاومة نعبر فيها عن الإصرار والعزيمة والروح والإرادة والقدرة على صناعة صورة تاريخية لشعبنا الذي يحاصره الموت ويخرج ليحقق الفوز عليه وتلك بعض كلمات كان عدنان حمد يرددها على أسماع اللاعبين في الكتيبة العراقية المقاومة، وهم يستعدون لملاقاة الفرق الأخرى. وحقا فإن الناس في السكينة سواء فإن جاءت المحن تباينوا وأن بضدها تتبين الأشياء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى