حق القول
في الطريق إلى نظام دولي جديد(4)
أمام مد واسع وعميق من التحركات والثورات والانتفاضات التي شهدها الكثير من دول العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أدركت الولايات المتحدة الأمريكية استحالة تحقيق السيطرة منفردة من دون مساعدة وإسناد ومشاركة بقية القوى الغربية التي تنطوي أنظمتها على فكر استعماري ومنهج استلاب للآخرين، عن طريق الأحلاف العسكرية والسياسية والتجمعات الاقتصادية التي حرصت واشنطن على إقامتها مع هذه الدول، كما شرعت مدفوعة بأهواء السيطرة والتفرد في نشر العديد من القواعد العسكرية في مناطق عديدة في العالم تحت ذريعة “تطويق الخطر الشيوعي” وضمان الاستعداد الكامل لمواجهة أية تحركات معادية “محتملة” من قبل الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية التي كانت هي الأخرى تفعل الشيء نفسه وتتحرك مدفوعة بالمخاوف نفسها والأهداف في محاولة لتحقيق الفوز على الطرف الآخر.
الولايات المتحدة وفي هذا الإطار من السباق المحموم اشتركت مباشرة في حروب كبرى عبرت فيها عن سياستها الرامية إلى تمزيق وحدة الشعوب والقوى التي يشكل نموها وتطورها متحدة أو حتى منفردة، خطرًا على سياسة التوسع الأمريكية في المناطق الحيوية المهمة وأمثلة ذلك اشتراك القوات المسلحة الأمريكية في الحرب الكورية “1950-1953” إلى جانب الشطر الكوري الجنوبي ضد الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية، التي كانت قد انقسمت إلى شطرين عقب الحرب العالمية الثانية عام 1945، وكانت واشنطن تعارض بشدة توجه البلاد نحو الوحدة من جديد، وقد أدت مشاركة القوات الأمريكية في تلك الحرب إلى تكريس تقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى بلدين، صار كل واحد منها تحت مظلة أحد القطبين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.
كما عملت الولايات المتحدة على التحرك السريع للإحلال محل فرنسا في الهند الصينية “تستخدم هذه العبارة للإشارة إلى ثلاث دول تقع جنوبي شرق آسيا هي: لاوس وكمبوديا وفيتنام. سماها الفرنسيون بالهند الصينية لتأثر بعض شعوبها بالهند التي تحد بلدانهم شرقًا وبعضهم الآخر لتأثرهم بالصين التي تقع إلى الجنوب من دولهم”.. فورطت واشنطن نفسها في حرب عدوانية ضد فيتنام “1964-1972” لكنها أجبرت على الانسحاب بعد خسائر مادية وبشرية هائلة اذ قتل من جنودها 56226 و 303601 جريح وفقدت 3700 طائرة مقاتلة و 4900 طائرة مروحية فضلًا عن خسائر هائلة بالمعدات والأسلحة الحربية الأخرى، الأمر الذي جعل واشنطن في بداية عقد السبعينات تتخذ قرارًا بإنهاء تلك الحرب كجزء من سياسة الانسحاب العام من منطقة جنوبي شرق آسيا التي طبقها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون “1969-1974″، وقبل ذلك كانت القوات المسلحة الأمريكية قد اشتركت مع القوات المسلحة البريطانية في غزو لبنان والأردن عام 1958، إضافة إلى تدخلها في قارة أفريقيا وربط العديد من بلدانها بأحلاف مؤيدة لسياستها ولأهدافها، وتقديم الولايات المتحدة الأمريكية الدعم المباشر “ماديًا ومعنويًا” للسلطات والقوى العميلة والأجيرة في أكثر من بلد أفريقي، كما دعمت في أمريكا اللاتينية كل القوى المناهضة للحكومات والحركات الوطنية فقد قدمت واشنطن الدعم غير المحدود لمحاولات الثورة المضادة الكوبية خاصة في عام 1961 للقضاء على نظام الرئيس الكوبي فيدل كاسترو وشهدت دول البيرو والأرجنتين وتشيلي والأرغواي وبوليفيا، فصولًا دامية من التدخلات الأمريكية في شؤونها الداخلية، إذ مارست واشنطن في عموم أمريكا اللاتينية ضغوطًا بوسائل متعددة أبرزها المؤسسات الأمريكية الاقتصادية التي تتحكم باقتصاديات هذه البلدان وكذلك من خلال “المجلس العسكري لدول أمريكا” الذي تهيمن عليه واشنطن ويرتبط أساسًا بوزارة الدفاع الأمريكية، فضلًا عن استخدام الأجهزة الأمريكية الخاصة وفي مقدمتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية(CIA) للتغلغل في أوساط العسكريين والشركات الكبرى وفي الأجهزة المحلية لهذه البلدان كالشرطة والأمن وتزويدها بالأسلحة والتجهيزات والمعلومات.
أما في الوطن العربي فقد حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على تقديم المساعدات السياسية والاقتصادية والعسكرية “لإسرائيل” دعمًا لأعمالها العدوانية ضد الدول العربية وترسيخ احتلالها لفلسطين.
لقد كان سعي الولايات المتحدة الأمريكية، في كل ذلك يتمحور حول كيفية تغيير ميزان القوى لصالحها وكسب سباق التفوق والهيمنة مع الاتحاد السوفيتي، وجعل العالم يسلم بأن النظام الدولي منوط بواشنطن وبرؤيتها ومصالحها وأنه على الآخرين ترتيب أوراقهم تبعًا لأولويات واشنطن وليس لأولوياتهم الوطنية.
وقد طبع ذلك تفكير كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة طوال فترة ما كان يعرف بالحرب الباردة. فهل كان ذلك يسيرًا على واشنطن وجرى تحقيقه بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991.أم إن ذلك كان عصيبًا ومكلفًا؟ والحديث مازال فيه الكثير.