أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حق القول

في الطريق إلى نظام دولي جديد “8”

في المرحلة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي، حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على الإعلان عن خطط وبرامج شكلت الخطوط العريضة والدقيقة لإستراتيجيتها الجديدة حيال العالم التي تستهدف بالأساس احتواء واستثمار الوضع الدولي الناشئ بما يمنحها القدرة الواسعة والمطلقة للمضي في طريق فرض إرادتها السياسية والاقتصادية والعسكرية وأنموذجها الخاص على العالم، وعلى أساس هذه المخططات، راحت “واشنطن” تروج عبر وسائل الإعلام الأمريكية والغربية بشكل مكثف
لما يسمى ب”النظام الدولي الجديد”، باعتباره عنوانًا صريحًا للمرحلة الآنية والمستقبلية في ظل التفرد الأمريكي، ولم يكن طرح أفكار هذا النظام من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، يظهر أية محاولة منها لإشاعة الديمقراطية وترسيخ السلام العالمي، كما كانت تدعي في تعاملها الداخلي “كحكومة” أو في تعاملها الخارجي “كقوة دولية” لها مسؤولياتها تجاه العالم، بل إن الطرح كان إعلانًا صريحًا “دكتاتوريًا” تعسفيًا يدل على أن أفكار هذا النظام ومستلزمات قيامه يجب أن تستحوذ على عقول وإدراك الآخرين من دون أية فرصة للرفض أو حتى مجرد الاعتراض أو النقاش للتفاصيل مهما كانت صغيرة في هذا النظام .
ومن منطلق تحقيق فاعلية النظام الدولي الجديد في تلبية أهداف الولايات المتحدة الأمريكية في احتواء الجميع وفرض هيمنتها في كل الاتجاهات والمفاصل، لجأت واشنطن إلى الربط بشكل عملي وعلني بين التسلح والأنشطة العسكرية والتهديد باستعمال السلاح أو استعماله فعليًا “كما حصل في العدوان على العراق عام 1991” وبين التنافس في العلاقات الدولية.
ومثلما كانت واشنطن قد صنعت في ظروف الحرب الباردة “قناعًا” لرفض قبول استقلال وتحرير العديد من دول ما تطلق عليه أدبياتها السياسية تسمية “العالم الثالث” وكانت تسوغ كل أعمالها وأعمال القوى الغربية في التآمر والعنف والحصارات الاقتصادية على تلك الدول على أساس الدفاع ضد السوفييت، فإنها اتخذت من النظام الدولي الجديد الذي طرحته “قناعًا” جديدًا للهيمنة وإعادة التأريخ إلى ما كان عليه في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حين كانت غالبية دول العالم واقعة تحت نير استعمار واستلاب الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة وبشكل خاص الإمبراطورية البريطانية، وبالتالي إفراغ استقلال الدول من محتواه الفعلي والعملي.
لقد خرجت الولايات المتحدة الأميركية من الحرب الباردة “برغم ادعائها تحقيق النصر” وهي مدينة على جميع المستويات بأكثر من 5  ترليونات دولار “أي خمسة آلاف مليار دولار”، وهي تعرف أن أحكام هذا الدين الهائل يجعلها غير قادرة على الدخول في منافسات اقتصادية نزيهة مع غيرها باستعمال وسائل وأدوات اقتصادية معروفة وشرعية، لذلك فكرت وخططت قبل كل شيء للسيطرة على مصادر الطاقة الخام ومصادر الثروات الطبيعية الأخرى المتركزة بشكل خاص في دول العالم الثالث ، واختارت إطار القوة العسكرية الذي طالما اعتمدت عليه لتحقيق أعلى مستويات الجدوى، بمعنى أن الولايات المتحدة الأميركية قد راهنت على تفوقها العسكري وانفرادها كقوة عظمى لتحقيق هدف الفوز في المنافسة الاقتصادية.
لقد اعتقد البعض “مخدوعين بالإعلام الأمريكي والغربي” أن نهاية الحرب الباردة تبشر ببداية عصر جديد، تتراجع فيه إمكانات الحروب لصالح تدعيم وسائل سعادة وتنمية الشعوب والدول، وتدفع بهم إلى الرقي في كل جوانب الحياة المتعددة.
المتفائلون زعموا أن العالم بدأ يدرك أن استعمال القوة ماهو إلا طريقة رديئة ومكلفة جدًا لتحقيق المصالح، لذلك فإن الاتجاه نحو عالم يتمتع بالسلام والاستقرار والأمان، هو نتيجة منطقية وحتمية، فالحروب باتت أشبه بمؤسسات غير فعالة وأن الحربين العالميتين والحرب الباردة، كانت مراحل اضطرارية على طريق الوصول إلى هذه النتيجة.
أما البعض الآخر” الأقل تفاؤلًا” فقد اعتقد بأن عالم مابعد الحرب الباردة يمثل حدًا فاصلًا بين الماضي والمستقبل “نهاية تأريخ وبداية تأريخ آخر”، فعند نهاية هذه الحرب حدث تحول كبير في السلوك العالمي تباينت تأثيراته من منطقة إلى منطقة أخرى، فالعالم يمكن تقسيمه “كما يقول دعاة الرأسمالية ومنظروها” إلى “مناطق سلام” و”مناطق اضطراب” وتشمل المنطقة الأولى دول “الديمقراطية” المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودول غرب أوربا واليابان، في حين تقع بقية العالم ضمن حدود منطقة الاضطراب، وفي داخل مناطق السلام تجد الحرب مستحيلة وذلك لأن الأنظمة الديمقراطية لا تحارب بعضها، كما أن الدول المتقدمة تتمتع بتفوق في القوة يجعلها لا تخشى حدوث هجوم عليها من جانب مناطق الاضطراب.
واعتمادًا على ذلك، تعد الولايات المتحدة الأمريكية  قدرتها العسكرية بمنزلة أداة نافعة لتغيير محيط  معاد لها إلى عكس ذلك وإزالة ما تعتبره أخطارًا فعلية تهدد أمنها، وعلى أساس ذلك يمكن فهم حقيقة سلوك الولايات المتحدة الأميركية المتمثل في رؤية صانعي السياسة فيها الذين اتجهوا إلى ترجمة أي نجاح وطني، بأنه تهديد في المدى البعيد للأمن الأمريكي، أو في الأقل تحديًا لنوع النظام الدولي الجديد الذي تتبناه وتتزعمه “واشنطن”، وإذا كان العدوان على العراق عام 1991 ومن ثم احتلاله عام 2003، تم بأقنعة صممتها الولايات المتحدة الأميركية منذ مدة  طويلة قبل الشروع بإطلاق القذائف والصواريخ ضد العراق والعراقيين، فإن المرحلة اللاحقة للصفحات العسكرية الكبرى في العدوان على العراق واحتلاله، قد صممت هي الأخرى على وفق قناع “النظام الدولي  الجديد” الذي عده البعض في بداية إطلاقه من قبل الرئيس الأميركي جورج بوش بأنه “هوس فكري” لا أكثر، يعبر بنحو إعلاني عن شعور أمريكي بالتعالي والغرور بالانفراد المتحقق بعد انتهاء الحرب الباردة، غير أن استمرار التأكيدات الأميركية على ضرورة قيام نظام دولي جديد، كان سببًا في الإدراك الجمعي بأن هذا النظام هو منهج إستراتيجي في التفكير الأمريكي، إذ راحت “واشنطن” تبشر بولادة “عهد جديد” على دول العالم أن تندمج فيه “طوعًا أو قسرًا” وأن من مفرداته هي “العولمة” و”أمركة العالم”، وكلها تقوم على حرية التجارة وفتح الحدود وتقزيم مفهوم الاستقلال الوطني بالنسبة للدول التي ترى واشنطن وتراها عواصم الغرب الأوربي أنها “متخلفة”، وبالتالي فإنه من الضروري وفقًا لمفهوم النظام الدولي الأمريكي الجديد، أن تقطع الخيوط التي تربط الشعوب بأوطانها وبأممها باعتبارها خيوطًا واهية ومعوقة للتقدم والسلام والأمن الدوليين وفقًا للمنظور الأمريكي والغربي .
والحديث مازال فيه الكثير

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى