أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حق القول

في الطريق إلى نظام دولي جديد "10"

لقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى استثمار الظروف الناشئة عن انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، بالإعلان العملي عن تفردها وهيمنتها على كل مفاصل السياسة والاقتصاد الدوليين، في محاولة منها لتأكيد النصر الذي ادعت إحرازه، وتعميم “موديلها” السياسي الذي طالما روجت له وعدته الأصلح لكل دول العالم وشعوبه،
ولم يكن تصميمها للحرب ضد العراق عام 1991 وفرض الحصار عليه ومن ثم احتلاله عام 2003، إلا تعبيرًا عن ذلك الإعلان العملي وبما يعلم الآخرين قدرتها على فرض هيمنتها، بما ينطوي عليه ذلك من “إنموذج” واقعي يمكن إسقاطه على أي بلد أو شعب أو قوة تقف بالضد من سياسات واشنطن وتوجهاتها، بمعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت آنذاك قد اتخذت قرارًا بتنصيب نفسها “حكومة عالمية” تحدد للآخرين اتجاهاتهم وسياساتهم وقياسات تحركاتهم وطبيعة نشاطاتهم، وتحدد لهم أيضا نسب ما يعود عليهم من ثرواتهم الوطنية، بعد أن تكون هي قد أخذت حصتها. ولا يقتصر ذلك على الدول، بل يشمل حتى المؤسسات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة، التي اضطرت إلى تبني الحديث عن سياسة “الحدود المفتوحة” من خلال تعبير “السيادة المرنة” الذي استعمله بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، في محاولة من المنظمة الدولية للتناغم مع متطلبات السياسة الأمريكية وتجنب غضب واشنطن الساعية لتسخير المنظمة الدولية كأداة من أدوات فرض هيمنتها على العالم.
فهل استطاعت الولايات المتحدة الأميركية أن تفرض نفسها حكومة عالمية تنفرد بالقوة والتأثير بعد أكثر من ثلاثة عقود على انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة؟
وهل أن أزمة عالمنا المعاصر “التي صنعتها الأطماع الاستعمارية” هي أزمة انهيار أم إحياء؟ وهل صحيح أن احتلال أمريكا العراق وقبله أفغانستان كان كافيًا للقول إن السياسة الأميركية باتت “قدرًا” لا يمكن الحذر منه ولا يجدي الوقوف ضده أو توفير وسائل الخلاص منه، وأن من يحلمون بذلك سيضطرون لدخول المستقبل “عزلًا بلا أسلحة” وغيرهم يفعل العكس؟
إن الذين كانوا في حيرة والتباس في إيجاد أجوبة لكل هذه الأسئلة، باتوا اليوم يملكون كمًا هائلًا من الحقائق المسندة بوقائع وأحداث كثيرة بمقدورها وبكل يسر أن تسقط ذلك الوهم، ولعل انطلاق المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي منذ أول يوم دخلت فيه القوات الأمريكية أرض العراق وما حققته من منجزات كبيرة وما كبدته لقوات الاحتلال من خسائر جسيمة، وهي التي لا تملك من التسليح والقدرات الاقتصادية واللوجستية إلا القليل في مواجهة أقوى جيوش العالم وأكثرها عدة، وعديدًا، وقدرات اقتصادية ولوجستية. كان من أولى الحقائق التي أظهرت للعالم أن إمكانية مواجهة “الثور الأمريكي” الهائج ممكنة. بل ممكنة جدًا، فاحتلال العراق صار محورًا أساسيًا للقياس في أي تقييم للسياسة والقوة الأميركية، وقدرات الولايات المتحدة الأميركية على تطويع الأوضاع وفقًا لمصالحها أو عدم القدرة على ذلك، فالوضع الدولي منذ غزو العراق عام 2003، أفصح عن جملة من الوقائع التي تمنح إمكانية استجلاء الحقائق. ولعل من بين أبرز هذه الوقائع التي أظهرها الاحتلال الأمريكي للعراق:
أولًا. إن للولايات المتحدة الأمريكية موقفًا ثابتًا يستوي فيه الحزبان الجمهوري والديمقراطي “من دون تمييز قد يقع به البعض أو يحاول البعض إيقاع الناس به” يهدف إلى تحقيق جميع مصالح أمريكا حتى ولو كان ذلك على حساب استلاب مصالح الشعوب ومقدراتها.
ثانيًا. إن تحقيق المصالحة الأمريكية لا يتوقف عند حدود تأمين تدفق ثروات الشعوب والدول لإدامة مفاصل الحياة الأمريكية والعالم الصناعي بالأسعار التي تلائمهم، ولا يتوقف عند حدود السيطرة والاستحواذ على مصادر الطاقة حسب، بل يهدف إلى تدوير أسس الحياة في كل المجتمعات ونسف التوازن العام الذي صنعته الشعوب المكافحة عبر مسيرة طويلة قدمت فيها الكثير من التضحيات وتحملت من أجلها الكثير من المصاعب.
ثالثًا. إن الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل سعيها لفرض نفسها وتثبيت حالها “حكومة عالمية” تنظر إلى قيام أية قوة ذاتية على أنه خطر كبير يهدد مصالحها، لذلك وقفت بشكل علني طوال أكثر من سبعة عقود مضت، ضد أية قوة عربية ناهضة تؤمن بوحدة العرب، وحتى ضد أي فكرة تدعو لذلك. فهي ترى هذا التوجه من الأخطار الجسيمة على مصالحها، باعتبار أن هذه القوة وهذه الدعوة بمثابة أداة لتوحيد الإمكانات، لذلك كانت واشنطن تقف بكل إمكاناتها مع “إسرائيل” في استمرار وجودها وتنمية قوتها وفي كل عدوان ارتكبته وترتكبه ضد فلسطين وشعبها وضد كل العرب ودولهم، كما نجد في مثال آخر أنها وقفت ومازالت تقف بالضد من محاولات التقارب الروسي-الصيني، أو حتى محاولات توحيد الإمكانات والقدرات للدول الأوربية التي تدعي أنها حليفة لها، أو توحيد الكوريتين أو حتى قيام تجمعات أو منظمات اقتصادية أو سياسية كحركة عدم الانحياز أو منظمة “أوبك” أو غيرها ممن يحمل أفكارًا فيها جانب من تحقيق الاستقلال الذاتي ومبادئ التفاهم والتعاون.
رابعًا. إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تسخر إمكاناتها السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، لتنفيذ أو دعم أية قرارات دولية مهما كانت عادلة وملامسة لحياة البشر أو حقوق الإنسان الذي تدعي واشنطن حرصها الشديد عليها، إلا إذا كانت تلك القرارات تصب في خدمة المصالح الأمريكية.
والحديث مازال فيه الكثير

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى