أخبار الرافدين
طلعت رميح

خصخصة الحرب وتعميم القتل!

من مفارقات الدهر أن صنفت الولايات المتحدة شركة فاغنر الروسية منظمة دولية إجرامية وبدأت تشن ضدها حربًا إعلامية، تتهمها بممارسة أعمال الاحتلال والقتل في أوكرانيا وإفريقيا ووضعت قياداتها وحساباتهم المصرفية على لائحة العقوبات الأمريكية.
المفارقة، لا تتعلق بفاغنر ولا بالحكم في روسيا الذي تعمل فاغنر لمصلحته وهو من يضفي مشروعية الدولة على جرائمها، بل تتعلق بالولايات المتحدة صاحبة السبق ومن شقت هذا الطريق الذي تسير فيه فاغنر من بعدها، وكذا لأن الولايات المتحدة هي من توغلت في هذا النمط من خصخصة الحروب وتعميم القتل والإجرام على الصعيد الدولي عبر شركاتها الأمنية شديدة الإجرام، والأكثر شهرة وخطورة منها هي شركة بلاك ووتر التي شهد العالم على جرائمها وضج بسببها، حتى اضطرت لتغيير اسمها لتخفيف العبء عن الساسة الأمريكيين الذين دعموا وحموا ومولوا نشاطاتها الإجرامية .
والمفارقة تتعلق بأن القرار الذي صدر ضد فاغنر، لم يستثن الشركات الأمريكية فقط، بل شركات مماثلة تعمل لحساب دول أخرى حليفة للولايات المتحدة، كما هو حال بريطانيا، التي تعمل لمصلحتها شركة “جي فور أس” ذات الطابع الدولي في نشاطاتها التي توصف بأكبر جيش خاص في العالم، وتوظف نحو 657 ألف موظف وتمارس أعمالها في نحو 125 دولة، والتي قدر حجم أعمالها عام 2014 بنحو 6 مليارات و848 مليون جنيه إسترليني !
وكذلك لم يلق القرار الأمريكي بالًا، لدور شركات المرتزقة الصهيونية التي تلعب أكبر الأدوار في معظم دول إفريقيا السمراء، ولا يقتصر نشاطها على ترتيب الانقلابات السياسية وإشعال وإدارة الحروب الأهلية، بل يتخطاه لدور لصوصي لمصادر الثروة الإفريقية التي يجري تهريبها للخارج، خاصة في مجال استخراج وتهريب الألماس الذي يجلب مبالغ طائلة لميزانية الكيان الصهيوني. لكنها السياسة وتحيزاتها والمصالح التي تجعل النفاق سياسة دائمة.
قبل العدوان الأمريكي البريطاني على أفغانستان والعراق، لم يكن العالم يسمع سوى عن ضباط وجنود سابقين، فصلوا من الخدمة النظامية وباتوا يوصفون بالمرتزقة المحترفين، وكان يجري اتهامهم بممارسة أعمال القتل والنهب والسرقة. وقد ظهرت لبعضهم أدوار في بعض الانقلابات العسكرية التي وقعت في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، غير أن الدول كانت تتناول أدوارهم مع حرص شديد على نفي ارتباط نشاطاتهم بدولهم .
وكان العالم يسمع عن قراصنة البحر وعصابات المافيا والمخدرات.
ومع إطلاق العدوان الأمريكي البريطاني الإجرامي على أفغانستان ثم بدأت خصخصة أعمال الاحتلال أو خصخصة الحروب، يمكن القول بتعميم القتل أيضًا، إذ أصبح لشركات المرتزقة ترخيص بالقتل وباتت جرائمها تحظى بتغطية حكومات الدول الاستعمارية، التي حولت المرتزقة من مجرمين مطاردين خارج القانون، إلى أصحاب أدوار تعترف بها وتدعمها، بل وضعت تلك الشركات ضمن تنظيمات وإستراتيجيات جيوشها.
كانت تلك هي بداية إعلان الحكومات الاستعمارية عن دور منظم لشركات المرتزقة التي تشكلت في تلك البلاد وصارت تعمل لخدمة حكوماتها، وضمن عمليات جيوشها، ووصل الأمر حد أن تساوى عدد الجنود المرتزقة مع الجنود النظاميين من الجيش الأمريكي، خلال أعمال الاحتلال في العراق .
صارت عمليات الاحتلال تجري بالجيوش النظامية وجيوش المرتزقة الذين تجندهم شركات توصف بالأمنية وبالمتعاقدين. وتنامى وتنوع وتوزع دورها بين حراسة كبار شخصيات الاحتلال –كما كان حال بول بريمر- وتدريب الميليشيات السوداء التي تقوم بأعمال الاغتيال والتطهير الديني والعرقي والجغرافي، وحماية معسكرات قوات الاحتلال والقيام بالأعمال الاستخبارية.
ولقد توسعت أدوار تلك الشركات من بعد، حتى أصبحت ظاهرة ضخمة، فصارت تدبر الانقلابات وتدير الحروب الأهلية وتقدم الدعم اللوجيستي للميليشيات وأعمال التمرد، وإيصال الأسلحة للمجموعات المتعاونة مع الدول التي تعمل الشركات في خدماتها. ووصلت قوة تلك الشركات حد القيام بأعمال تدريب جيوش دول أخرى وأعمال بناء معسكرات وقواعد تلك الجيوش.
وفي الفترة الأخيرة شهد نشاط تلك الشركات توسعًا في اتجاهات أخرى، إذ بدأت العمل في مجال تغيير اتجاهات الرأي العام في الدول المستهدفة والتأثير على نتائج الانتخابات فيها، كما باتت تمارس أعمال القرصنة الإلكترونية وتعطيل عمل المؤسسات والتأثير على الأوضاع الاقتصادية للدول.
لقد صارت ميزانيات تلك الشركات بالمليارات. والأخطر أن أصبحت أدوارها ضمن إستراتيجيات واستجابات الدول الكبرى لظروف وتوازنات الصراع الدولي، وأحد أبرز أدوات التوسع الإقليمي والدولي لها وأخطر وسائل تفكيك الدول الصغرى وتحويلها إلى دول مضطربة وفاشلة، إلى مستوى باتت فيه تلك الشركات توفر لحكومات الدول الاستعمارية فرص تفادي استخدام جيوشها وإعلان الدخول في حروب وفرص الالتفاف حتى على إرادة شعوبها بعدم عرض أدوارها ونشاطاتها العسكرية الإجرامية على برلمانات تلك الدول.
وفي منطقتنا أيضًا، فالنموذج الإيراني حاضر بكل الأشكال والأنواع عبر الميليشيات الإجرامية التي هي أحدى أنماط الشركات الأمنية العسكرية، كما هو حال “حزب نصرالله” في لبنان والحوثيين في اليمن، أما العراق فتتعدد فيه الشركات الأمنية العسكرية الإيرانية، تحت مسميات لا حصر لها ولا عد.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى