أخبار الرافدين
طلعت رميح

بعث العسكرية اليابانية.. قرار أمريكي!

هي إحدى مفارقات السياسة التي تتغير أو تنقلب إلى النقيض بتغير المصالح.
صعدت الصين، فتهددت هيمنة الولايات المتحدة على العالم، فانقلبت السياسة الأمريكية من التحالف مع الصين -منذ زمن الصراع مع الاتحاد السوفيتي- إلى العداء والتهديد بالحرب.
وبالتبعية، انقلبت السياسة الأمريكية من تقييد بناء الجيش الياباني إلى تطويره وتسليحه إلى درجة بعث العسكرية في المجتمع الياباني، لتهديد الصين وربما حربها.
وهكذا تغيرت المصالح، فانقلبت السياسة. أما المبادئ فهي عند هذا النمط من الدول والقيادات، مجرد لافتات للادعاء، وحديث مبرمج لخداع الآخرين أو لإخفاء النوايا الحقيقية.
الولايات المتحدة التي قصفت اليابان بالأسلحة النووية وفرضت عليها الاستسلام، وكتبت لها دستورها، الذي تنص مادته التاسعة على “تخلى اليابان وإلى الأبد عن الحرب كحق سيادي للدولة وعدم القيام بأية أعمال عدوان أو تهديد بواسطة العنف كوسيلة لحل النزاعات الدولية”، هي ذاتها من تضغط منذ سنوات على اليابان لتطوير جيشها وإنهاء مرحلة قوة الدفاع الذاتي، والذهاب سريعا إلى حالة الدولة الجاهزة للمساهمة في الصراعات العسكرية التي تشعلها الولايات المتحدة في خارج أراضيها، وإلى دولة تطور قدراتها العسكرية وفق إستراتيجية هجومية تجاه الصين، تحديدا.
وهكذا انقلبت السياسة الأمريكية إلى النقيض كليا، بعد نحو 80 عاما، امتزجت فيها الدعاية الأمريكية بخليط ومزيح معقد من الادعاء بالتمسك بالمبادئ وإدارة السياسات والمصالح لتحقيق السلام في العالم.
والولايات المتحدة لا تضغط من الخارج فقط على حكام اليابان لتغيير سياسة طوكيو، بل هي تتحرك داخل النخب والمجتمع الياباني باعتبارها تحتل البلاد فعليا، لدفع المجتمع للعودة إلى حالة العسكرة.
وتسعى كذلك لإنهاء حالة الثأر التاريخي بين اليابان والدول التي كانت احتلتها خلال سطوة تلك النزعة، وذلك من أجل بناء تحالف عسكري بين اليابان وأعدائها السابقين وفي مواجهة الصين أيضا.
كانت دول آسيا، قد عانت من نزعة العسكرة اليابانية تاريخيا، إذ ارتبطت تلك الحالة ببناء الدولة الإمبراطورية والتوسع الاستعماري في دول آسيا، وقد وصلت القوات اليابانية والتوسع الإمبراطوري بين 1895 و1942، إلى أراضي الصين، ومملكة كوريا، وإندونيسيا، والفليبين، وماليزيا، وبابواغينيا الجديدة، ومستعمرة الهند الصينية الفرنسية، وبورما، وعدة من جزر المحيط الهادي.
وإذ كانت الولايات المتحدة مصره على استمرار حالة العداء بين اليابان وتلك الدول في السابق لضمان عدم خروج اليابان من تحت سيطرتها، فقد انقلبت السياسة الأمريكية للنقيض الآن.
ولقد تابعنا هذا التحول في الأيام الأخيرة في أوضح صوره. إذ دشنت السياسة الأمريكية نجاحا في محاولتها إنهاء حالة الثأر التاريخي بين كوريا الجنوبية واليابان، عبر لقاء قادة الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية مؤخرا، إذ انعقدت قمة ثلاثية كانت الأولى من نوعها، ونتج عنها تدشين تحالف عسكري بين كوريا الجنوبية واليابان برعاية الولايات المتحدة ومشاركتها بطبيعة الحال.
والسياسة الأمريكية لا تتحرك من اجل بعث النزعة العسكرية في اليابان بأدوات فرض المواقف وإحداث التغيير من الخارج فقط. هي تلعب لعبة دعم أطراف داخلية، أو النخب اليابانية التي تسعى، هي الأخرى، لتغيير وضعية الاحتلال وحالة الضعف التي فرضت على اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، واستعادة دورها التاريخي أو حتى الاستعماري.
لكن ذلك لا يعني أبدا أن الولايات المتحدة، ستكون الكاسب الأخير في تلك اللعبة الإستراتيجية. فهناك من يتماشى مع اللعبة الأمريكية لكن لأجل تحقيق أهداف اخرى، وفي المستقبل ستنقلب الأحداث ضد الإستراتيجية الأمريكية. هكذا تقول وقائع العلاقات اليابانية الأمريكية تاريخيا.
فاليابان ستكرر ما حدث من قبل، حين استجابت للضغط الأمريكي، وجعلت استجابتها ومسايرتها له غطاء لخطة إستراتيجية كبرى تتعلق بطموحات اليابان، وحين تحققت لها عوامل القوة، تحولت لحرب الولايات المتحدة ذاتها.
لقد كانت الولايات المتحدة هي نفسها من كسرت عزلة اليابان وهي من تسببت في تحولها إلى قوة استعمارية في نهايات القرن التاسع عشر. الولايات المتحدة كانت من أرسلت سفنها الحربية السوداء إلى اليابان طالبة فتح اسواقها أمام السلع والمنتجات الأمريكية أو مواجهة الحرب في حال عدم الاستجابة.
وإذ وافقت اليابان على الطلب والضغط الأمريكي، فقد كان القرار الإستراتيجي لليابان هو الاستجابة مرحليا، وبناء القوة إستراتيجيا لمواجهة الولايات المتحدة.
لقد استجابت اليابان للضغط الأمريكي تحت ضغط اختلال موازين القوى، لكنها وضعت خطة للتطوير والتحديث وبناء الصناعات العسكرية، وحين حققت أهدافها، انقلب الموقف الياباني، إذ دخلت طوكيو الحرب العالمية الثانية تحت شعار طرد أمريكا من آسيا!
والآن تعود الولايات المتحدة لإحياء النزعة العسكرية لليابان لمواجهة أعداء وخصوم الولايات المتحدة، وعلى الأغلب أن اليابان تساير الموقف الأمريكي مرحليا لا إستراتيجيا، وبعد التخلص من قيود واشنطن، ستعود إلى سابق رؤيتها الإستراتيجية وستتحول إلى مواجهة الولايات المتحدة.
وتلك هي أحوال سياسات ومصالح الدول. فالمصالح متغيرة والسياسات تتغير أو تنقلب للضد تبعا لتغير المصالح.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى