أخبار الرافدين
داود الفرحان

إنها اللحظات الأخيرة

مسلة داود الفرحان: كل الأفلام السينمائية البوليسية و “الأكشن” الأمريكية والبريطانية والإيطالية والفرنسية والعربية والهندية تنتهي بوصول الشرطة في اللحظات الأخيرة من كل فيلم لإنقاذ البطل أو الطفل المختطف أو إبطال مفعول المتفجرات. ومنذ زمن أفلام الأسود والأبيض فهم الفنانون أن الشرطة لن تأتي لإلقاء القبض على المجرمين في بداية الفيلم ولا في وسطه، فالقصة والإخراج يقتضيان أن تظهر الشرطة في اللحظات الأخيرة لزيادة التشويق. والسينمائيون العرب ليسوا أصحاب براءة اختراع “اللحظات الأخيرة” من الفيلم، وإنما هم نقلوها بالقلم والمسطرة عن الأفلام الأمريكية.
وهذا المقال ليس عن السينما وإنما عن الرؤساء الأمريكيين الذين تبين، كما قالت صحيفة “واشنطن بوست” لا يملكون إستراتيجية واضحة لإدارة العلاقة مع الدول الأخرى من العراق إلى إيران إلى فلسطين، ما جعلهم يوجهون عددا من مساعديهم ومؤيديهم للظهور في القنوات التلفزيونية والدفاع عن مواقف الرؤساء “المترددة والمتناقضة” على حد وصف بعض المحللين. فترامب، مثلا، كما روت الصحيفة الأمريكية، قرر في أحد الأيام القيام بعمل عسكري ضد ثلاثة أهداف في إيران ردا على إسقاطها طائرة أمريكية دون طيار خلال فترة حكمه. ثم تراجع في “الدقيقة الأخيرة” لأنه شعر أن مستشاره للأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية بومبيو “يحشرانه في مكان لا يريده”. فالاثنان ومعهما المخابرات المركزية وبقية فريق مستشاري ترامب ومساعديه كانوا يؤيدون توجيه ضربة انتقامية ضد إيران. لكن القرار النهائي بيد ترامب وليس في يد أحد آخر. إلا أن مايكل مايكوفسكي رئيس المعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي قال إن بعض الرؤساء “يعرضون مصداقية الولايات المتحدة للخطر”. وفي السياسة الأمريكية في عهود كل الرؤساء لا تعني “المصداقية” أمرا يستحق أن ينحني أي منهم أمامه باحترام.
والدرس الأبلغ أمامنا من حرب جورج بوش الابن على العراق وغزوه واحتلاله، بحجج ثبت أنها كاذبة وملفقة وتفتقر إلى أبسط الدلائل، أنها خلفت مئات الآلاف من الضحايا العراقيين، ومعهم نحو خمسة آلاف قتيل عسكري أمريكي وعشرات الآلاف من الجرحى. ولم يهتز البيت الأبيض أمام كل هؤلاء الضحايا من الجانبين، لكن جدران القاعة البيضاوية في البيت الأبيض تصدعت لمجرد أن قال أحد الجنرالات لترامب ذات يوم إن عملية ضرب المواقع الإيرانية الثلاث ستخلف 150 قتيلا إيرانيًا واحتمال مقتل خمسين عسكريًا أميركيًا في المنطقة. لكن مائة ألف قتيل عراقي لم تعن شيئا لجنرالات البنتاغون، فقط “احتمال” سقوط 150 قتيلا إيرانيًا يستوجب إيقاف عقارب الساعة “في اللحظات الأخيرة”.
الآن عرفنا أن قلوب الرؤساء الأمريكيين رقيقة. وهم كانوا رقيقين وذرفوا الدموع أيضا حين أعلنوا نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. ثم كانوا رقيقين كذلك بالسماح لإسرائيل بضم هضبة الجولان السورية المحتلة إلى الكيان الصهيوني.
وخلال الشهرين الأخيرين من العام الماضي شاهدنا رقة وآلام وحزن ودموع الرؤساء الأمريكيين وهم يشاهدون ويقرؤون ويسمعون المجازر الصهيونية التي ارتكبتها إسرائيل تحت نظر العالم كله وراح ضحيتها آلاف مؤلفة من الشعب الفلسطيني أطفالا ونساء وشبابًا وشيوخًا ومرضى.
وكنا طوال شهرين متصلين أيضا ننام ونصحو على تصريحات الرئيس الأمريكي الأسبق ترامب حول “الحرب المدمرة” التي سيشنها ضد إيران الملالي. لكنه في “العشر دقائق الأخيرة” قبل تنفيذ ضربات محدودة قرر ترامب إلغاء العملية وإطفاء الأنوار والتهيؤ لمشاهدة الأحلام!
الواقع علمنا أن “اللحظات الأخيرة” هي الفاصل بين قرار يدخل التاريخ وقرار يهمله التاريخ. وهي الفاصل بين قرار يحاصر آلاف الأسر المكسيكية رجالا ونساء وأطفالا على الحدود وقرار “يخشى” أن يموت 150 عسكريًا من الحرس الثوري الإيراني مقابل سقوط طائرة استطلاع أمريكية دون طيار.
دعونا من ترامب الآن ومحاكماته، ولنقرأ بعض ما يقوله التاريخ عن مثل هذه الدقائق واللحظات:
في عام 1970 بعد صدور بيان 11 آذار للحكم الذاتي للأكراد حلقنا في ثلاث طائرات هليكوبتر عراقية مع نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي آنذاك صدام حسين في الطريق إلى سد دوكان في محافظة السليمانية شمالي العراق. وقبل أن تهبط طائرة نائب الرئيس تنبه الطيار في “اللحظات الأخيرة” إلى أن المكان الذي ستهبط فيه الطائرة هو حقل ألغام من سنوات الحرب الطويلة. وتغير وجه العراق منذ تلك اللحظات التي كادت أن تكون الأخيرة.
من لا يعرف الزعيم الأمريكي الزنجي مارتن لوثر كينغ لا يعرف شيئًا عن حقوق الأمريكيين من أصل أفريقي. كل هؤلاء يحتفلون سنويًا بذكرى الرجل القس الذي صرعته رصاصة متعصب أمريكي أبيض في 4 نيسان 1968 بعد أن ترك للبشرية أجمل عبارة رومانسية قالها رجل سياسي “لدي حلم” التي وردت في خطاب ملهم حول الحقوق المدنية. وفي الخطاب الأصلي المكتوب لم يكن هناك أي ذكر لكلمة “الحلم”. لكن في “اللحظات الأخيرة” من الخطاب صرخت ماهاليا جاكسون مغنية الإنجيل “أخبرنا عن الحلم” فبدأ مارتن لوثر كينغ يرتجل قائلا “لدي حلم”. وفعلا نال الأمريكيون معظم حقوقهم ودخل واحد منهم إلى البيت الأبيض رئيسًا اسمه “باراك أوباما” ليشهد العرب أسود أيامهم معه، خاصة بعد أن تركت إدارته في اللحظة الأخيرة الباب مشرعًا على مصراعيه لدخول الميليشيات الإيرانية وفيلق القدس والمقبور قاسم سليماني والاحتلال الإيراني للعراق وتولي ذيول إيران الحكم في بغداد.
وفي التاريخ الأمريكي أيضًا، وفي “اللحظات الأخيرة” من الحرب العالمية الثانية، قرر الرئيس الأمريكي هاري ترومان إلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما ومدينة أخرى اسمها كوكورا. لكن الطيار قرر “في اللحظات الأخيرة” إلغاء مهمته بإلقاء قنبلة ذرية على كوكورا لأن السماء فوقها كانت ملبدة بالغيوم. وهكذا نجت المدينة من الكارثة، لكن ترومان أمر بتنفيذ خيار آخر وهو مدينة ناغازاكي التي تلقت قنبلة لم تكن معدة لها، ولكنها قسمة “اللحظات الأخيرة” من الحرب العالمية الثانية. وترومان هذا هو رئيس أول دولة تعترف “في اللحظات الأولى” بدولة لم تكن على خريطة العالم اسمها “إسرائيل”!
وفي “اللحظات الأخيرة” من هذا المقال أذكركم بأن غرق السفينة تايتانيك في عام 1912 لم يكن السبب الرئيس للكارثة اصطدامها بجبل جليدي ولكنه استغناء قبطان السفينة في “اللحظات الأخيرة” قبل إبحارها عن ضابط من طاقمها نسي وهو يهبط من السفينة تسليم مفتاح الخزنة التي تضم مناظير مراقبة الجبال الجليدية. فأعتمد البحارة على عيونهم التي لم تكن مثل عيون زرقاء اليمامة فاصطادها جبل جليدي في المحيط الأطلسي.
ومن النكبات العربية في “اللحظات الأخيرة” اغتيال رئيس المكتب السياسي في حركة حماس صالح العاروري -رحمه الله- في بيروت.
القدر يتدخل كثيرا في “اللحظات الأخيرة” وهو قضاء وقدر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى