أخبار الرافدين
طلعت رميح

جنوب إفريقيا: الجنوب يرفع الراية

ذهاب جنوب إفريقيا إلى هذا المدى من التحدي في مواجهة الغرب والسيطرة والسطوة الصهيونية على المؤسسات “الدولية”، هو حدث تأريخي وتطور كبير في دلالاته الراهنة ومآلاته المستقبلية.
فإذ لم تتحرك أية دولة غربية من تلك التي تتحدث عن نفسها باعتبارها من دول العالم الأول المتباهية بقيمها الليبرالية وبحماية حقوق الانسان، جاء تحرك جنوب إفريقيا ليجسد تقدم دول الجنوب لبناء منظومة قيمية إنسانية عادله، وجاء التحرك ليقول إن منظومة القيم الغربية مجرد ترويج إعلامي، فيما قيم دول الجنوب هي قيم حقيقية، إذ مثل هذا التحرك يجعل جنوب إفريقيا في وجه العاصفة الغربية المدمرة، سواء لأن التحرك جاء من دولة عضو في مجموعة بريكس التي تثير حساسيات الغرب، أو لأنه يأتي من دولة إفريقية كانت حتى الأمس مستعمرة أو مزرعة غربية، ولأن قرار جنوب إفريقيا شكل إعلانًا بضرورة ميلاد نظام دولي مختلف، لا يخضع لهيمنة الغرب الذي بات مكشوفًا بزيف ادعاءاته.
تحرك جنوب إفريقيا وتقديمها دعوى قضائية ضد الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، هو قرار مؤلم للكيان، وهو إعلان بالدخول في مواجهة بالغة التعقيد مع الغرب الذي هو في أسوا حالاته وفي مرحلة ردود الفعل الخطرة وربما المجنونة.
فهي دولة ذات تجربة ثرية فيما تصدت له، وشهادتها تمثل من عانى لسنوات طوال ودفع الدماء في مواجهة الأجرام الغربي عبر تجربة فصل عنصري وإبادة شاملة.
وهي صاحبة تجربة نجحت في ختامها بإنهاء دولة فصل عنصري، مثلها مثل الكيان الصهيوني، وتصديها لتلك القضية، يؤكد للعالم إمكانية أن يلقى الكيان الصهيوني نفس مآل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
وتصديها ورفعها للدعوى ضد الكيان الصهيوني هو إشهار دولي بأن الرأي العام العالمي الذي احتشد في شوارع الكرة الأرضية أحدث تغييرًا في توازنات القوى وفتح المجال أمام دولة من الجنوب للتصدي لنتائج انحطاط الغرب. وهي خطوه أجبرت الكيان الصهيوني على إنهاء حالة التعالي والشعور بالفوقية على كل القوانين والمنظمات والهيئات الدولية.
لقد حققت جنوب إفريقيا أول أهدافها فور تقديم دعواها، إذ أخذت القيادة الصهيونية خطوة تراجعية، وقررت المثول في وضع الاتهام أمام محكمة دولية.
وجاء تحرك جنوب إفريقيا مجسدًا ومعبرًا عن الضمير العالمي والقيم الأخلاقية الإنسانية الجامعة في لحظة تأريخية فاصله، إذ وصلت حكومات غربية إلى درجة العلانية الفاجرة في دعمها –بل تبنيها- للممارسات الفاشية والنازية. ولذلك شكلت الدعوى ضربة مؤلمة للغرب الذي كان قد برر سيطرته على العالم واعتبر نفسه المرجع لتوجهات المجتمع الدولي على أساس مواجهته التأريخية للنازية والفاشية خلال الحرب العالمية الثانية.
لقد قامت جنوب إفريقيا بخطوه مبادرة وكاشفة، وما سيصدر عن المحكمة وما يتلوه، سيشكل نقطة فاصله في إدارة الحروب والصراعات الدولية، وفي مواقف الشعوب والدول من هيئات الأمم المتحدة، إذ محكمة العدل الدولية جهة لا فيتو فيها للدول الخمس الكبرى.
لقد كشفت جنوب إفريقيا فور تقديم دعواها، كيف تحول كثير من حكومات الغرب إلى النازية والفاشية مع سبق الإصرار والترصد.
لقد وقف الحكم في الولايات المتحدة علانية في موقع المدافع عن الأجرام الصهيوني، والمزدرى للقوانين والمنظمات الدولية، بعد أن أعلنت الخارجية الأمريكية أن دعوى جنوب إفريقيا لا أساس لها من الصحة. وأن تهمة الإبادة الجماعية التي وجهتها جنوب إفريقيا للكيان الصهيوني لا قيمة لها.
كما ظهر أن دولة مثل المانيا باتت منخرطه في إعادة إنتاج السلوك والفكر النازي- وهذه المرة ضد العرب والمسلمين- كما كشف التقدم بالدعوى كيف أن بعض الحكومات الغربية الرافضة لما يرتكب من جرائم، تظل في موقع العاجز عن التعبير العملي عن مواقفها، وأن المبادرة باتت بيد دول الجنوب.
ولقد شجعت مبادرة جنوب إفريقيا الأصوات الحرة في الغرب على الإجهار برأيها الرافض للسلوك النازي لحكوماتها، باعتباره خروجًا على القوانين الدولية، حتى أن شخصيات غربية مؤثره تتحدث الآن باتهام قادة حكوماتها بالمشاركة في سلوك القتل والإبادة والتطهير العرقي والتهجير.
والأهم في خطوة جنوب إفريقيا، أنها حملت راية إعادة بناء النسق الأخلاقي والقيمي الذي انقلب عليه الغرب، وأنها جسدت تصدي الجنوب- لا العالم الأول- لمنح النظام الدولي مصداقية تمثيل القيم الإنسانية، فجنوب إفريقيا تتقدم لتنتزع مكانه دولية في إرساء العدل عالميًا، إذ هي ليست دولة جوار ولا دولة متضررة بشكل مباشر مما يجري، كما لا يربطها بالطرف المعتدى عليه روبط الدين أو اللغة أو غيرها.
وجنوب إفريقيا اليوم في مواجهة أخلاقية مع الولايات المتحدة والغرب وفي مواجهة حاسمة مع الكيان الصهيوني الذي وجد نفسه في ورطة خانقة، إذ اختارت جنوب إفريقيا أن ترفع دعواها باتهام الكيان الصهيوني بارتكاب أفعال إبادة جماعية بناء على ما جاء في اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي جرت صياغتها واعتمادها لمنع تكرار أي هولوكوست مشابه لما حدث خلال الحرب العالمية الثانية.
جنوب إفريقيا في مواجهة تعد الأولى من نوعها، إذ تحاكم دولة إفريقية –لا عربية ولا إسلامية- الكيان الصهيوني.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى