أخبار الرافدين
21عاما على احتلال العراق: فشل وفساد سياسيبلاد النهرين عطشىتشكيل الحكومة العراقية أزمات متعاقبةتقارير الرافدينحكومات الفساد في العراق

واقع مرير ومستقبل مجهول في العراق بعد عشرين عامًا من تحكّم الطارئين وشهود الزور

قسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين في العراق يرصد أوضاع العراق منذ احتلاله من القتل خارج القانون والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والإعدام والهجرة والتهجير والنزوح القسري. حتى أوضاع المرأة والطفل والأقليات والخدمات والبنى التحتية والفساد المالي والإداري.

عمان- الرافدين
أصدر قسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين في العراق، التقرير السنوي لحالة حقوق الإنسان في العراق، الذي سلّط الضوء على ما يجري في البلاد على مدى العقدين الماضيين، تحت عنوان (عشرون عامًا من تحكّم الطارئين وشهود الزور: واقع مرير ومستقبل مجهول).
وتضمّن التقرير أرقامًا وإحصاءات وشهادات ووثائق، تكشف حقيقة ما يجري في العراق ولا سيما ما يتعلق بالحريات العامة، وما له صلة بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأصعدة الحياة كافة.
ودار التقرير حول محاور أساسية تتفرع منها معلومات مزودة بوثائق وحقائق رصدها قسم حقوق الإنسان في الهيئة، من بينها: القتل والإصابة خارج القانون، والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والإعدام، والهجرة والتهجير والنزوح القسري.
وتناول أوضاع المرأة والطفل، وأوضاع الأقليات، والخدمات والبنى التحتية والفساد المالي والإداري، والوضع التربوي والتعليمي، والوضع الصحي والبيئي، ووضع الحريات العامة والصحفية، والتغيير الديموغرافي، والإفلات من العقاب وعمليات التعذيب.
ولأهمية ماورد في التقرير تنشر قناة “الرافدين” نصه الكامل كوثيقة سياسية توثق لعشرين عامًا من الأوضاع في العراق.

عشرون عامًا من تحكّم الطارئين وشهود الزور.. واقع مرير ومستقبل مجهول
إعداد: قسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين في العراق

خلفية عامة

قبل عشرين عامًا، زعم الغزاة والمحتلون ومن جاء معهم بأن احتلال العراق سيكون إيذاناً ببدء عصر جديد في العراق، والشرق الأوسط، والعالم أجمع. ومنذ ذلك الحين لا تزال الحرب التي شنتها واشنطن مثيرة للجدل بين الأميركيين أنفسهم، وبين العراقيين الذين توهموا بأن الاحتلال فيه خلاص من كابوس الطغيان الطويل؛ وهي كذبة كبيرة ظهرت حقيقتها الشريرة وتداعياتها الخطرة مع الأيام ولا ينبغي لأي داعم للحرب أن ينكرها. عشرون عاما ولم يعِ المجتمع الدولي بعد عِظم الخطيئة التي ارتكبها بحق العراق والعراقيين، وحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه للتكفير عنها، وأن عدم محاسبة مجرمي الحرب وجه من أوجه استمرار حالة الاحتلال الأمريكي-الإيراني للبلاد والإرهاب الناجم عنه الذي كان العراقيون -وما يزالون- ضحاياه، الذين اعتقد الواهمون منهم أن حياتهم لم تعد رخيصة، وأن وقت المساءلة قد حان، والذين دفعوا وما زالوا يدفعون ثمنه بدمائهم ودماء أبنائهم وحاضرهم ومستقبلهم. فقد شكل غزو العراق واحتلاله جريمة حرب عدوانية استندت على خدع وتلفيقات تبينت حقيقة كذبها للجميع، ولم يكن من أهداف الحرب “تحرير” البلد كما زعمت واشنطن ولندن في حينه، بل كان الهدف من غزو العراق تدمير حاضره ومصادرة مستقبله ونهب ثرواته ومحو تاريخه وكسر إرادة شعبه وتغييبه عن حاضنته العربية وتعطيل دوره الإقليمي، ولم تكتفِ الولايات المتحدة بغزو واحتلال البلد عسكريا، بل تعدى ذلك الغزو ليشمل مختلف معانيه، ولا سيما الغزو الثقافي والفكري وما يترتب على ذلك من مخاطر ونتائج كارثية على مستوى الفرد والمجتمع وخاصة فيما يتعلق بمخطط استئصال الهوية الوطنية العراقية واقتلاعها من جذورها ونشر أفكار مزيفة وتحريف الحقائق وإظهارها بمظهر يتناسب مع مخططات سلطة الاحتلال وأهدافها ورغباتها، وقد وفرت الحكومات المتعاقبة التي فرضها الاحتلال على العراق الزخم اللازم لذلك.
لقد شهد العام 2003 بداية سلسلة من الأحداث الكبرى في تاريخ العراق المعاصر؛ الأول كان قرار إدارة جورج بوش الابن شن حرب على العراق في 19 آذار/مارس 2003، والثاني هو انهيار الدولة في 9 نيسان/أبريل 2003. بالتزامن مع ذلك، باتت البلاد تحت الاحتلال الأمريكي والبريطاني وفقًا لقرار الأمم المتحدة 1483. وفي 24 أيار/مايو 2003 قال جورج بوش الابن إنه في 30 حزيران/يونيو من العام نفسه ستتولى الحكومة المؤقتة في العراق سلطات الاحتلال بقيادة الولايات المتحدة وستكون “حكومة مواطنين عراقيين” تتمتع بـ”سيادة كاملة”. ونظرًا للسلطات الواسعة لقوات الاحتلال؛ لا يختلف فقهاء القانون الدولي على أن واشنطن تنازلت عن السلطة القانونية فقط للحكومات المتعاقبة في العراق، لذا ستكون هذه الحكومات حكومات بسيادة منقوصة وشرعية مشكوك فيها. وبشكل عام؛ فلا سيادة لأي دولة عندما تتوسع الميليشيات فيها وتصبح أقوى من الدولة وجيشها، وهذا ما حدث في العراق الجديد، والحقيقة أن العراق ما بعد الغزو بات ضعيفا لدرجة أن معظم دول العالم تتدخل في شؤونه وتحاول كسب النفوذ.
إن الفوضى العارمة في العراق ما بعد الغزو الأمريكي جعلته عرضة للمنافسات الإقليمية والدولية، وأدى الغزو والاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة إلى تدخل أعمق من جانب إيران، واستطاعت طهران تطبيق نموذج حزب الله في العراق من خلال دعم الميليشيات المسلحة الشيعية، التي شارك بعضها في العملية السياسة مثل: كتائب حزب الله وميليشيا النجباء، وكتائب الإمام علي، والعصائب وغيرها، التي ابتلي بها العراق بعد 2003 والتي ارتكبت ومنذ تأسيسها أبشع الجرائم بحق المدنيين العراقيين، وما صاحب ذلك من فوضى أمنية متفاقمة وضياع لهيبة الدولة واستشراء للفساد في الدوائر الحكومية كافة مع تكريس لحالة الإفلات من العقاب طوال السنين التسعة عشرة الماضية، وسط غياب تام لأي تحرك دولي ضد مرتكبي الانتهاكات من القتلة والمجرمين والفاسدين والمختلسين، وانعكاسات ذلك التي جعلت العراق يتصدر القائمة السوداء لمؤشر الإفلات من العقاب العالمي وبات من الدول الأكثر خطرًا على حياة الإنسان، والأكثر فسادًا في العالم.
وبعد عقدين من الاحتلال، وفي الذكرى السنوية العشرين للغزو الأمريكي للعراق؛ قدم استطلاعا رأي أجرتهما شركة غالوب الدولية، الأول قدم فكرة عن آراء العراقيين حول حياتهم ووطنهم، وقد شمل الاستطلاع جميع محافظات العراق، ويشير الاستطلاع إلى أن الكثير من العراقيين يرون أن الحياة كانت أفضل قبل الاحتلال مقارنة بما هي عليه الآن، ومعظم المستطلعة آراؤهم يعتقدون أن أمريكا غزت بلدهم لسرقة موارده وإضعافه خدمة لأمن إسرائيل. أما الاستطلاع الثاني فكان في أمريكا نفسها وقد أظهر انخفاض الدعم الشعبي الأمريكي للحرب المطولة بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين. وقد أظهر الاستطلاع نفسه أن 84٪ من الأمريكيين لديهم وجهة نظر سلبية عن تلك الحرب.

تم إنجاز المهمة!!

في الأول من آيار/مايو عام 2003، أي بعد ستة أسابيع من بدء الغزو، بلغت أعداد القتلى من المدنيين أكثر من 7500 شخص من جراء القصف والقوة النارية الماحقة لقوات الاحتلال، لكن الخسائر الأكبر لم تأت بعد، إذ وقعت الغالبية العظمى من الضحايا بعد خطاب جورج بوش الابن الذي أعلن فيه انتهاء العمليات القتالية الرئيسية في حرب العراق، وكانت قد علقت فوقه لافتة مكتوب عليها “تم إنجاز المهمة”، حيث جاءت الأعداد الهائلة من الضحايا المدنيين نتيجة للغارات الجوية والضربات الصاروخية خلال العمليات البرية التي شنتها قوات التحالف وعمليات إطلاق النار والإعدامات الميدانية التي طالت عشرات الآلاف من المدنيين، وكذلك نتيجة لأعمال عنف مختلفة وتفجير سيارات مفخخة طالت الآلاف من الأبرياء الآمنين طوال السنوات العشرين الماضية. ومنذ إعلان “انتهاء” الحرب في العراق، في الأول من مايو/أيار 2003، إلى أي مدى كان العراق ينعم بالسلام؟ وما هو نوع السلام الذي يعيشه العراقيون اليوم؟

لقد شهد العراق استخدام القوة المفرطة والمميتة باستمرار ضد المدنيين خلال عمليات “الصدمة والرعب” التي شنتها قوات الاحتلال، وامتلأت مستشفيات البلاد بالآلاف الذين وجدوا أنفسهم في طريق الغزاة، يوماً بعد يوم؛ ثم خلال سنوات ذروة المقاومة الشعبية في عامي 2004 و2005، عندما قتلت قوات الاحتلال أكثر من 23 ألف من المدنيين العراقيين؛ وظل العنف مستمرا وبلا هوادة، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 60 ألف مدني في العراق سنويا.
لقد أدى الاحتلال إلى عيش الملايين من العراقيين كنازحين داخليا أو لاجئين خارجيا، في ظروف حياة بائسة يحفها الفقر والمرض والحاجة والخوف، في حالة من عدم اليقين، الأمر الذي يفند أي ادعاء بأن قوات الاحتلال جلبت للعراقيين السلام أو الأمن أو الشعور بالأمان والحماية من الموت العنيف. لقد تفاقمت حالة الحرب ليضاف إليها قيام القوات الأميركية أو البريطانية أو أي جنسية بقتل المزيد من المدنيين من مختلف الفئات المجتمعية ومن جميع الأعمار والطبقات الاجتماعية والدينية بشكل عشوائي، وسط إعطاء الحكومات المتعاقبة في العراق قوات الاحتلال الأمريكي الحصانة من الملاحقة القضائية، فلا توجد مدينة أو بلدة أو قرية آمنة، حيث فتحت قوات الاحتلال نيران أسلحتها تجاه كل ما يتحرك في كل شارع وفي كل عمارة سكنية أو داخل أي منزل أو مدرسة أو مسجد أو كنيسة أو سوق، وحتى الطير لم يسلم من نيران تلك القوات. وهذا غيض من فيض ما حدث في العراق إبان الغزو والاحتلال.

استمرار حالة الطوارئ

وقبل عشرين عامًا، وتحديدًا في 22 آيار/مايو 2003، أعلن رئيس دولة الاحتلال فرض الولايات المتحدة حالة طوارئ وطنية متعلقة بالعراق وفقًا لقانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية للتعامل مع التهديد غير العادي والاستثنائي للأمن القومي والسياسة الخارجية للعراق وللولايات المتحدة، وفي هذه الحالة بالذات، فإن إعلان حالة طوارئ أمريكية فيما يتعلق باستقرار العراق يعني أن حكومة واشنطن تدرك وجود تهديدات أو تحديات وعقبات مستمرة تحول دون إعادة الإعمار المنظم للعراق، واستعادة وحفظ السلام والأمن في البلاد، وتطوير المؤسسات السياسية والإدارية والاقتصادية في العراق؛ الأمر الذي يتطلب إجراء تدابير الطوارئ، ولكن إدارة بوش الابن تجاهلت متعمدة حقيقة أن المستجد الأبرز الحاصل في العراق بعد ذلك التأريخ الذي استدعى إعلان حالة الطوارئ هو وقوع الحرب العدوانية وغير المبررة التي شنها التحالف الدولي الذي قادته تلك الإدارة لغزو واحتلال العراق.
وفي 16 آيار/مايو الماضي؛ وقع الرئيس جو بايدن إشعارًا مدّد من خلاله حالة الطوارئ الأمريكية المتعلقة بالأوضاع في العراق، وجاء فيه: (لا تزال هناك عقبات تعترض إعادة الإعمار المنظم في العراق، واستعادة الأمن والسلام والحفاظ عليهما، مع عقبات أخرى تعيق تطوير المؤسسات السياسية والإدارية والاقتصادية في البلاد). ووفقًا للقسم 202 (د) من قانون حالات الطوارئ الوطنية جرى تحرير إشعار باستمرار حالة الطوارئ الوطنية فيما يتعلق باستقرار العراق والأمر التنفيذي 13668 المؤرخ 27 مايو 2014، يجب أن يستمر ساري المفعول بعد 22 مايو 2023. كما نص الإشعار على أن هذه العقبات لا تزال تشكل تهديدا وصفه بـ “غير العادي” للأمن القومي والسياسة الخارجية للعراق وللولايات المتحدة، وبناء على ذلك (قررت إدارة بايدن أنه من الضروري استمرار حالة الطوارئ الوطنية المعلنة بموجب الأمر التنفيذي رقم 13303 فيما يخص استقرار العراق).
وجاء إعلان تمديد حالة الطوارئ بعد تصريح السفيرة الأميركية الحالية في بغداد ألينا رومانوسكي، بأن العراقيين لا يريدون دولة تسيطر عليها الميليشيات وأن الولايات المتحدة لن ترحل عن المنطقة، وشددت على أنه مهما تكن طبيعة علاقة رئيس الوزراء مع هذه الميليشيات، فإن الهدف يجب أن يبقى منصبا على ضمان تمتع العراق بالاستقرار والأمن. وبينت أنه من دون تحقيق الأمن والاستقرار فلا الولايات المتحدة ولا المجتمع الدولي يمكنه جلب الأعمال إلى البلاد.
لكن (إدارة بايدن) والسفيرة الأمريكية تجاهلتا أنه وعلى مدى السنوات الماضية التي أعقبت الغزو الأميركي في عام 2003، شهد العراق ظهور عشرات المليشيات الإرهابية الموالية لإيران، التي استفحلت في عهد جون نيغرو بونتي صاحب المهمات الاستخباراتية القذرة تخطيطا وتنفيذا، الذي تولى منصب سفير الولايات المتحدة لدى العراق في حزيران/يونيو 2004، حتى هيمنت بشكل كامل على المشهد الأمني والسياسي والاقتصادي، وشكّلت السبب الرئيس في العبث بأمن واستقرار العراق، وساهمت مساهمة مباشرة في تأجيج الطائفية والقتل على الهوية في عموم البلاد.
إن المليشيات الإرهابية الموالية لإيران باتت تتحكم بالعراق الجديد بصفة قانونية ومحمية بقرار برلماني، بمباركة أمريكية واضحة وتواطؤ دولي وصمت عربي، ولا يختلف اثنان على أن وجود هذه الميليشيات يشكل نقيضًا صارخًا لمفهوم الدولة، ولا شك أن المتضرر الأول من وجودها والذي يدفع ثمن سطوتها هو الشعب العراقي من دماء أبنائه وحاضرهم ومستقبلهم؛ ولا يمكن إنهاء حالة الطوارئ ومعالجة تداعياتها في العراق إلا بزوال هذا الشر المستطير.

العراق أخطر وجهة في العالم

ومن تداعيات غزو واحتلال العراق وما صاحبه من انهيار لمؤسسات الدولة وحل للأجهزة الأمنية وسقوط البلاد في قبضة الميليشيات الطائفية؛ بات العراق أخطر وجهة في العالم، تنطبق عليه مقولة الرحالة الشهير (ابن بطوطة) “الداخل مفقود والخارج مولود”؛ فالداخل إليه مفقود ولا يُعرف إن كان سيخرج، والخارج منه مولود لأنه كُتبت له حياة جديدة، وهذا ما تؤكده جميع المصادر الدولية التي توفر خرائط مخاطر السفر لمختلف المناطق والبلدان، التي تجمع على أن العراق من أخطر وجهات العالم على مدى العقدين الماضيين، وجميعها تؤكد على وجود مخاوف أمنية حقيقية مستمرة في العراق بعد 2003، بما في ذلك خطر الإرهاب والاختطاف والصراع المسلح. بالإضافة إلى ذلك، خروج نظام الرعاية الصحية في العراق من مستوى معايير الدول الغربية، مما قد يزيد من مخاطر المرض أو الإصابة أثناء السفر.
وإن ما جاء في الخريطة الاستشارية للسفر بوزارة الخارجية الأمريكية للعام 2023 بشأن العراق، باعتبارها تمثل الجهة التي شنت حربًا عدوانية ضده وتسببت بما آلت إليه الأوضاع في البلاد. وبناءً على بيانات خريطة وزارة الخارجية الأمريكية، فإن العراق في مقدمة الوجهات التي تُعتبر من بين أكثر الوجهات خطورة في العالم للمسافرين بغرض الأعمال أو الترفيه؛ وذلك بسبب تفاقم الصراع واستمرار النشاط الإرهابي للمليشيات الموالية لإيران وارتفاع معدلات الجرائم العنيفة ومخاطر الاختطاف، وعدم الاستقرار السياسي وغياب القانون وتقييد الوصول إلى المعلومات، وخطر كبير بالاعتقال والاحتجاز والاختفاء القسري، إلى جانب الأزمة الاقتصادية وتفشي الأمراض، فضلا عن كونه مسرحًا لنشاط العديد من المافيات العالمية.

ولدى وزارة الخارجية الأمريكية حاليًا المستوى الرابع “لا تسافر” إلى العراق بسبب استمرار الإرهاب والاختطاف والصراعات المسلحة. وهذا يعني عدم تشجيع السفر إلى العراق بشدة، ويجب على أولئك الذين يختارون الذهاب إلى هناك توخي الحذر الشديد ووضع خطة أمنية شاملة.
ووفقًا لخريطة وزارة الخارجية الأمريكية، فلا يزال الوضع خطرًا وغير قابل للتنبؤ به في العراق. وهناك مخاوف أمنية مستمرة في البلاد، بما في ذلك خطر الإرهاب والاختطاف والنزاع المسلح. ونقتبس هنا نصًا مما جاء في بياناتها: “وبالنظر إلى الوضع الحالي في العراق، لا يُنصح بالسفر إلى هناك ما لم يكن ذلك ضروريًا للغاية. وإذا اخترت السفر إلى العراق، فمن الضروري اتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة لضمان سلامتك وأمنك أثناء وجودك هناك. ومن المهم التفكير بعناية شديدة في مخاطر السفر إلى العراق كونه أخطر وجهة في العالم، ومن الضروري اتخاذ الاحتياطات اللازمة لضمان سلامتك أثناء وجودك هناك”. انتهى الاقتباس.
إن المآسي غير المسبوقة التي بدأت في العراق مع شن الحرب العدوانية عليه في عام 2003، والتي كان لها -ولا يزال- تأثير سلبي كبير على البلاد وشعبها بل والمنطقة والعالم أيضًا، والتي تسببت بفوضى عارمة عمت البلاد سمحت بظهور الميليشيات الإرهابية واستفحالها وتأجيج الطائفية ونتج عنها مقتل مئات الآلاف من الأشخاص وتشريد الملايين وتدمير البنية التحتية وغياب الخدمات الأساسية وانعدام الأمن الغذائي وانهيار الأنظمة الصحية والتعليمية والتربوية وتفشي الفساد بأنواعه، الأمر الذي أدى إلى تفكيك المجتمع، إلى جانب ما يواجه من توترات طائفية وصراعات من أجل الحكم والسلطة. وساهمت هذه العوامل وغيرها في خلق بيئة صعبة لكثير من العراقيين، مما أدى إلى مخاوف حقيقية بشأن السلامة الشخصية، والحريات، ومحدودية الوصول إلى الخدمات الأساسية.
ولا شك أن استخدام الإرهاب موضع إدانة على نطاق واسع لأنه يلحق الأذى والموت والمعاناة للأبرياء ويعطل الأداء السلمي للمجتمع؛ إلا أنه لا يوجد تعريف واضح ومحدد للإرهاب؛ ولكن من التجربة غالبًا ما يستخدم مصطلح الإرهاب لوصف الاستخدام الممنهج للعنف لخلق مناخ عام من الخوف الشديد أو القلق لدى السكان وترويعهم، التي يمكن أن يقوم بها أفراد أو مجموعات أو دول في سبيل تحقيق هدف سياسي معين. ومن الشائع إعلاميًا أن الإرهاب قد يمارس من قبل المنظمات السياسية ذات الأهداف اليمينية أو اليسارية، أو من قبل الجماعات القومية أو الدينية، ولكن لا أحد يتحدث عن الإرهاب الممارس من قبل الدول والحكومات مثل الجيوش الغازية أو المحلية وأجهزة المخابرات والشرطة ومن قبل الميليشيات والمسميات الأخرى التابعة للحكومات، وهو الإرهاب الذي يرزح تحته الشعب العراقي المقهور منذ أكثر من عشرين عامًا.

الإرهاب خيار سياسي لحكومات الاحتلال

أثار الغزو غير القانوني الذي قادته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وما تلاه من احتلال عسكري وحشي للعراق، كفاحا مسلحا مكثفا لمناهضة الاحتلال وعمليته السياسية وحكوماته المتعاقبة التي يرعاها والتي تعدها الغالبية العظمى من العراقيين غير شرعية. ومن غير المفاجئ الطريقة التي تصف بها سلطة الاحتلال والقوى الغربية المتحالفة معها وحكوماتها في بغداد الكفاح المسلح ضد الاحتلال بأنه “إرهاب”، وذلك لصرف الانتباه عن دور الاحتلال في تهيئة الظروف لاستمرار المقاومة، ولتجاهل اعتبار أعمال العنف والعنف المضاد التي تمارسها قوات الاحتلال بمثابة “إرهاب”. ويشير إرهاب الدولة إلى استخدام إجراءات عنيفة أو تعسفية أو قسرية من قبل حكومة أو دولة ضد المواطنين أو غيرهم من الأفراد أو الجماعات، غالبًا بهدف بث الخوف أو السيطرة على السكان. ويمكن أن يشمل ذلك أعمالًا مثل القتل خارج نطاق القضاء، والتعذيب، والاختفاء القسري، والسجن من دون محاكمة وما يصاحب ذلك من تعذيب وحشي بأساليب سادية، وغيرها من أشكال العنف التي ترعاها حكومات الاحتلال المتعاقبة في سياق سعيها المحموم لخلط الأوراق من خلال تأجيج العنف الطائفي واستمرار الفوضى في العراق بغية تشويه صورة المقاومة العراقية الشريفة بكافة أشكالها التي هي حق مشروع للشعب الواقع تحت الاحتلال، والتي يحظى سلاحها بشرعية قانونية، الذي تمكنت الحكومات المتعاقبة في العراق من تجريمه خروجا منها على الأعراف والقوانين الدولية كما دأبت على ذلك طوال السنوات العشرين الماضية. وغالبًا ما يُرتكب إرهاب الدولة باسم الأمن القومي أو لقمع المعارضة السياسية أو الجهات المناهضة للنظام السياسي القائم. ويمكن أن يكون لها تأثير كبير على حياة وحريات الأفراد، وكذلك على عمل المجتمع المدني والمؤسسات الديمقراطية، وهذا ما يجري في العراق خلال العقدين الماضيين.
ويُعدّ استخدام إرهاب الدولة على نطاق واسع باعتباره انتهاكًا لحقوق الإنسان والقانون الدولي، وهو أمر مدان بموجب القانون الدولي والمحلي، الذي يقضي بتحمّل الحكومات والدول مسؤولية حماية حقوق وحريات مواطنيها ومنع العنف الذي ترعاه الدولة. وتشمل جهود مكافحة إرهاب الدولة التحقيقات وتدابير المساءلة والدعوة لمزيد من الاحترام لحقوق الإنسان وسيادة القانون.
أما ضحايا الإرهاب فهم الأفراد أو الجماعات الذين تأثروا بشكل مباشر أو غير مباشر بأعمال إرهابية. قد يشمل هؤلاء الأشخاص الذين أصيبوا جسديًا أو قُتلوا في هجوم إرهابي، وكذلك أسرهم وأحبائهم الذين يعانون من الحزن والصدمات وغيرها من الآثار والتداعيات طويلة المدى. وبالإضافة إلى الأذى الجسدي، يجب إلا ننس ما يتعرض له ضحايا الإرهاب أيضًا من صدمات نفسية وعاطفية، مثل اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب المؤقت أو المزمن ومستويات مختلفة من القلق وتأثيرات أخرى طويلة الأمد، وهذا ما يعانيه العراقيون ومنذ 2003 وحتى اليوم، ولا بد أن يكون لمثل هذه التأثيرات دعم وعلاج مستمران.

ويعاني العراقيون أيضًا كضحايا الإرهاب من أضرار اقتصادية، مثل فقدان الدخل وتلف الممتلكات وخسائر مالية أخرى. ويمكن أن يكون لهذا تأثير كبير على مستوى حياتهم ومدى قدرتهم على التعافي مما خلفه الإرهاب. لذا فإن هناك ضرورة عاجلة للعمل على مساعدة ضحايا الإرهاب للتكيف مع تجاربهم وإعادة بناء حياتهم.
إن القضاء على الإرهاب الحكومي ضرورة حتمية لإنصاف الضحايا، لكن ذلك قضية معقدة تتطلب مقاربة متعددة الأوجه تنطوي على جهود وطنية سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية، وتتطلب أيضًا التزامًا طويل الأمد من الحكومات الوطنية القادمة والمجتمع المدني المحلي والمجتمع الدولي، وهذا لن يكون أمرًا سهلًا وفق المعطيات الحالية التي فرضها النظام السياسي القائم الذي جاء به الاحتلالان الأمريكي والإيراني، ولكن من خلال العمل الجماعي المتكاتف، قد يتمكن الشعب العراقي من إحراز تقدم نحو عراق أكثر سلامًا وأمانًا. وهناك بعض الخطوات التي يمكن أن تساعد في تحقيق ذلك، أبرزها بحسب الأهمية معالجة الأسباب الجذرية للإرهاب الحكومي وما خلفه من فوضى أمنية ومستويات عير مسبوقة من الفقر وعدم المساواة والقمع السياسي وعوامل أخرى يمكن أن تسهم في استمرار الإرهاب وتصاعده. إلى جانب ذلك هناك ضرورة ملحة لتعزيز التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب الحكومي في العراق من خلال توثيق الأدلة وعرضها على الرأي العام العالمي في سبيل الوصول إلى استجابة دولية منسقة وتعطيل الأذرع الإرهابية في البلاد.
ومع تصاعد أعمال العنف اليومية التي تستهدف حياة المدنيين في العراق، ولاسيما بعد العام 2005 وتحديدا مع تعيين نيغرو بونتي سفيرا لدولة الاحتلال في العراق وتسلم ميليشيا بدر لوزارة الداخلية في عهد حكومة الجعفري، ازدادت وتيرة جرائم القتل الجماعي والاغتيالات وحالات الاختفاء القسري بشكل ملحوظ، وانتشرت الهجمات على أئمة المساجد والمصلين واعتقالهم تحت غطاء القانون الجائر وارتفاع حالات القتل التي استهدفت أئمة وعاملين بمساجد كثيرة بالعاصمة بغداد، وبات العثور على عشرات الجثث أمرًا شبه يومي، بينما تم تغييب أعداد لا تحصى من المدنيين العراقيين، وشهد العراق تفاقم ظاهرة ما تسمى بـ(الجثث مجهولة الهوية)، والحقيقة هي ليست مجهولة الهوية وإنما هي جثث تعود لمغدورين، معظمهم أساتذة وأكاديميون وأطباء وموظفون بارزون وضباط ومراتب وطيارو الجيش العراقي السابق الذين شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، تم تحديد أسمائهم ومناصبهم الوظيفية وعناوينهم السكنية قبيل الاحتلال وجرى تغييبهم وتمت تصفيتهم من قبل تلك الميليشيات بدوافع انتقامية وخلفيات طائفية تنفيذًا لمخططات خارجية وضعت سلفا. واليوم، تواصل عشرات الآلاف من العائلات العراقية البحث عن أبنائها الذين فقدوا مصيرهم نتيجة فوضى السلاح الممنهجة والصراعات الحزبية والطائفية التي تسبب بها غزو واحتلال البلاد.
وبلغت جرائم القتل الجماعي والاغتيالات ذروتها بعد حادثة تفجير قبة مرقد الإمامين العسكريين في سامراء من قبل المخابرات الإيرانية في شباط/فبراير 2006، ومن الظلم المركب الذي تعرض له ذوو الضحايا والضحايا أيضًا هو أن مراكز الطب العدلي في بغداد والمحافظات باتت تحت سيطرة الميليشيات التي ترصد أي شخص يحاول السؤال عن هوية الجثث التي تم إحضارها إلى تلك المراكز، وفي ظل الظروف الأمنية السيئة للغاية؛ فإنه بالنسبة لأي عائلة عراقية فقدت أحد أفرادها أو أكثر، فإن عملية البحث عن شخص مفقود معقدة وخطرة للغاية، بل ومستحيلة في الكثير من الأحيان، فمن المعروف أن التنقل في مناطق معينة في العراق يمكن أن يهدد الحياة، لذلك، لا تستطيع أحد من ذوي الضحايا التحرك بحرية للمطالبة بمكان وجود أقاربهم المفقودين، حتى لو كان ذلك عبر القنوات الخاصة مثل الأفراد أو المنظمات الخيرية، أو عن طريق البحث في المستشفيات، قبل الاستفسار في مراكز الطب العدلي. وهناك عامل آخر يعقد البحث هو حقيقة أن العائلات لا تعرف أين تسأل، ولا يوجد مصدر رسمي للمعلومات عن المفقودين، ويصبح الأمر أكثر تعقيدًا عندما يتم الاتصال بالعائلات من قبل أفراد مجهولين يزعمون أنهم يعرفون مكان أقاربهم المفقودين ويطلبون المال مقابل المعلومات. علاوة على ذلك، حتى لو دفعت الأسرة المبالغ المطلوبة، فقد لا تكون المعلومات صحيحة. ناهيك عن العقبات الكثيرة التي تواجه عملية التعرف على الجثث في مراكز الطب العدلي؛ إذ أن اختبار الحمض النووي، الذي يعد إحدى وسائل التعرف على الجثث التي يتم إحضارها إلى معهد الطب، غير متوفر في العراق، مع ندرة في العاملين في معهد الطب العدلي في بغداد.
وبينما تمكن القليل من ذوي الضحايا التعرف على جثث أبنائهم أو أقاربهم التي تم العثور عليها، إلا أنه لم يتمكن معظم ذوي الضحايا من الحصول على فرصة للتعرف على البعض الآخر من الجثث. ووفقاً لمصادر رسمية في العراق، فقد تم إحضار حوالي 28 ألف جثة من شباط/فبراير عام 2006 حتى يونيو/حزيران 2007 إلى معهد الطب العدلي في بغداد. وكان ما يقرب من 50% من هذه الجثث “مجهولة الهوية” وعندما عجز ذووها عن المطالبة بها، تم دفنها في مقابر بمحافظتي النجف وكربلاء. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المصادر الحكومية المعنية قد مُنعت من التصريح بأي معلومات بشأن الجثث التي يتم إحضارها إلى مراكز الطب العدلي بالبلاد. ومنذ النصف الثاني من العام 2003 وحتى نهاية 2006، وبحسب مصادر محلية، تم دفن 54000 جثة “مجهولة الهوية” في مقابر محافظتي النجف وكربلاء، ولا يزال من الصعب للغاية تقدير أعداد الأشخاص المغيبين في العراق بدقة؛ وبحسب مصادر محلية ودولية عامة، فإن عدد الأشخاص المغيبين يتراوح ما بين 375 ألف إلى مليون شخص. وحتى لو كان الحد الأدنى من الأشخاص المغيبين والبالغ 375 ألف شخص صحيحًا، فإنه يعكس حجم المأساة التي يواجهها كل من عائلات الضحايا والضحايا أنفسهم إذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة؛ فمقابل كل شخص مغيب هناك عائلة بأكملها تنتظر المعلومات عنه ويظل الأمل بعودته في أي لحظة قائمًا، في مأساة مركبة لا يمكن للكلمات وصفها.
وطوال السنين العشرين العجاف الماضية عجّ الوضع في العراق بالتحديات غير المسبوقة، بالتزامن مع استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والصراعات وأعمال العنف والأزمات الاقتصادية. وفقد معظم العراقيين الأمل في مستقبل أفضل، مما أدى إلى شعور بالإحباط واليأس الشديدين من المتحكمين في البلاد. وأدى الاحتلال إلى تجارب لا توصف صعوباتها خاضها العراقيون على مدى العقدين الماضيين، وتنامي الشعور لدى فئات واسعة من المجتمع بعدم الارتياح والذعر والخوف من المستقبل المجهول. ونجمت لدى شرائح كثيرة من العراقيين مجموعة من المشاعر المؤلمة، بما في ذلك المواقف العصيبة أو القلق الاجتماعي أو مشكلات الصحة الجسمانية والعقلية الأساسية، والتداعيات الكارثية لذلك على مستوى الفرد والعائلة والمجتمع ككل.

العراق سجن كبير

وظل العراق طوال العقدين الماضين سجنا كبيرا يتعرض فيه العراقيون لشتى أنواع الإذلال والتنكيل والحرمان، ولعل أول تصريح لأول حاكم فعلي على العراق عقب الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003، جي غارنر، بأنه تمت المباشرة ببناء خمسة سجون كبرى في العراق يعبر عن جانب مما كان يُراد للبلد أن يكون عليه في ظل احتلال بغيض وحكومات متعاقبة جاء بها واستمر في تقديم الدعم لها وإنعاشها للبقاء متسلطة على رقاب العراقيين ومتحكمة بثرواته ومقدراته.
ومنذ ذلك الحين؛ يتم التحكم بالعراق من قبل الطارئين وشهود الزور الذين كرسوا نسف مفهوم الدولة وتغييب المواطنة وإشاعة الظلم والفساد والعمالة، وتمكين الميليشيات الإرهابية التابعة لـ “الجارة” إيران، واستفراد تلك الميليشيات بحكم العراق بمباركة المجتمع الدولي، الأمر الذي أفضى إلى غياب سلطان القانون وفرض قانون القوة وتنفيذ موجات من الاعتقالات الجماعية والإعدامات الميدانية واحتجاز الآلاف من الأشخاص بشكل غير قانوني، وانتشار أماكن الاحتجاز السرية وتفشي فوضى السلاح وشيوع جرائم القتل والخطف والاختفاء القسري والاعتداءات بكل أشكالها، وسط إفلات مطلق لمرتكبي الانتهاكات من العقاب.
أما على الصعيد العام في ظل حكومات الاحتلال المتعاقبة، فإن كل أبناء الشعب متهمون من قبل الحكومات المتعاقبة حتى يثبت عكس ذلك، متهمون بمناهضة الاحتلال وحكوماته المتعاقبة ورفض جميع التدخلات الخارجية، ولا سيما التدخلات الإيرانية، ولعل الأهزوجة الشعبية “إيران برة برة .. بغداد تبقى حرة” الأكثر تعبيرًا لإرادة الشعب العراقي والأكثر رعبًا لحكومة إيران وذيولها في العراق، وهذا ما أكدته أحدث استطلاعات الرأي العالمية مثل بيانات مؤسسة “غالوب” لاستطلاعات الرأي للعام 2023، التي أظهرت بأن الغالبية الكبيرة في العراق يكرهون التدخلات الإيرانية في بلادهم، وأن 86% من العراقيين يعارضون تبعية حكومات بغداد لطهران، وأن إيران لا تتمتع بشعبية جماهيرية في العراق حتى بين الأوساط الشيعية الشعبية العراقية، التي انتفضت في 2019 بشكل واسع وغير مسبوق، والتي تم قمعها بالقوة المفرطة المميتة من قبل الأجهزة الأمنية الحكومية والميليشيات التابعة للأحزاب المتنفذة كما دأبت على ذلك من قبل.

تلاشي التنوع الثقافي

ويعد التنوع الثقافي الثري الذي كان يمتاز به العراق قبل الغزو الأمريكي جزءًا كبيرًا ومحوريا في تاريخه العريق، الأمر الذي يجعله مكانًا مثيرًا للاهتمام، ويمكن أن يكون السبب الرئيس للتغير الثقافي في العراق ما فرضه عليه الاحتلال من تغيرات عميقة ومدروسة على المجتمع، وإلى جانب الغزو والاحتلال الحاصل هناك العديد من الأسباب الأخرى التي ساهمت في تلاشي هذا التنوع الفريد منها: العولمة والتكنولوجيا والتغير المناخي السريع والتغييرات الطارئة على المشهد الاقتصادي وغيرها من الأسباب التي كان وراء أغلبها الاحتلال وحكوماته المتعاقبة. وتضمن مخطط استئصال الثقافة الوطنية في العراق ما بعد الغزو الأمريكي مراحل عديدة جرى وما يزال يجري تنفيذها في ظل حكومات الاحتلال المتعاقبة منها: زرع الفتن بين أبناء الوطن الواحد لسنين، وقتل المدنيين الآمنين لإيهام العراقيين أنهم يقتلون بعضهم بعضا، وتفجير المراقد والكنائس والمساجد، لتحطيم الفسيفساء التي تميز بها هذا البلد العريق، وغيرها الكثير الكثير من المخططات اللئيمة.
ولا يزال العراق ما بعد الغزو الأمريكي يعاني من مشاكل عميقة نابعة من الفشل السياسي والإداري ومن جراح الديمقراطية الزائفة والعنف الطائفي التي ستظل نازفة في ظل الصراعات السياسية والنزاعات الدستورية، والتوترات العرقية والدينية، وسوء الإدارة، والفساد المستشري في الوزارات والدوائر الحكومية كافة وعلى جميع المستويات؛ الأمر الذي يُظهر حقيقة زيادة ازدراء العراقيين للسياسيين الحاليين وانعدام ثقتهم بالسياسة، وإن حقيقة عزوف أكثر من 80% من الناخبين عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة هي علامة تحذير يجب أن تحفز على التفكير الجدي في اتجاه البلاد. فالعراقيون – العرب السنة والشيعة والأكراد وغيرهم من المكونات– جميعهم غير راضين، وهو ما تؤكده الاحتجاجات الشعبية المتكررة على مر السنين.
وقد أدى النظام السياسي الذي فرضه المحتل إلى تعقيد القضايا الاقتصادية والسياسية والأمنية العالقة، وعمل على تقويض المصالح الوطنية ونسف مقوماتها، وذلك من خلال تغييب قوة القانون وإشاعة الفوضى وتغليب قانون القوة وتفشي الفساد بكل أشكاله واستشرائه في مفاصل الدولة كافة. لقد أصبح العراق ما بعد الغزو الأمريكي دولة لصوص تعمل فيه سلطة الاحتلال وحكوماتها وعملاؤها على تجريد الدولة من ثرواتها وتجذير الفساد، وتهديد نسيج الدولة ذاته، وتغذية العنف، وتعميق الانقسام.

استمرار مسلسل الفواجع

في صباح الأربعاء 27 أيلول/سبتمبر الجاري، استيقظ العراق على فاجعة جديدة تمثلت بحريق مدمر في قاعة زفاف في قضاء الحمدانية، بمحافظة نينوى شمالي البلاد، وتشير المعلومات الرسمية، إلى أن ما لا يقل عن 118 شخصًا قد لقوا مصرعهم، والحصيلة مرشحة للزيادة بسبب خطورة حالات الإصابة، بينما أصيب أكثر من 150 آخرين، في حين أشار الهلال الأحمر العراقي، إلى أن عدد الضحايا وصل إلى 450 شخصا، بين قتيل ومصاب.
إن غياب سلطان القانون وانعدام الرقابة وسيطرة الميليشيات على المشهد السياسي والأمني والاقتصادي في العراق ما بعد الغزو الأمريكي، أدى إلى عدم التزام عام بتعليمات السلامة، وإهمال ممنهج ولاسيما في قطاعي البناء والنقل، في ظل بنى تحتية متهالكة بفعل انعدام التخطيط وإجراءات الصيانة، الأمر الذي يؤدي إلى استمرار حدوث مثل تلك الكوارث. وبينما يواصل العراق لملمة جراح كارثة حريق قاعة الأعراس في قضاء الحمدانية بمحافظة نينوى، وقعت بعد أقل من 24 ساعة، وقعت حادثة أخرى أثارت غضب العراقيين، حيث أصيب العشرات بتسمم جماعي في عرس بقضاء الحويجة في محافظة كركوك؛ بسبب طعام فاسد، في حادثة تعزز حقيقة الغياب التام للرقابة في العراق الجديد.
وبعد كل نكبة يُنكَب بها العراقيون لا يوجد رد حكومي حقيقي على هذه الكارثة سوى العبارة المكررة التي لا تُزيد ولا تُنقص (أمر رئيس مجلس الوزراء بتشكيل لجنة تحقيقية)، لجنة تضاف إلى آلاف اللجان التي شكلت بعد كل جريمة أو نكبة، وتبقى نتائج تحقيقات تلك اللجان مبهمة، هذا إن كانت هناك حقًا تحقيقات.
وكان أكثر من 120 شخصاً (معظمهم من النساء والأطفال) قد لقوا حتفهم في غرق عبّارة سياحيّة في نهر دجلة بمدينة الموصل في 21 آذار/مارس 2019، وكانت العبَّارة تنقل نحو 6 أضعاف الطاقة الاستيعابية لها. بينما لقى 80 شخصا مصرعهم، في حريق اندلع في مستشفى الخطيب الذي كان يعالج مصابين بمرض كوفيد، في نيسان / أبريل 2021، نجم عن انفجار أسطوانات الأوكسجين، وبعد ذلك ببضعة أشهر، وفي تمّوز/ يوليو من العام نفسه، لقي 64 شخصاً مصرعهم جرّاء حريق في مستشفى بالناصرية في جنوب العراق اندلع في جناح لمرضى كوفيد. وفي 23 آذار/مارس 2022، أُعلنَ عن إغلاق ملف حادثة غرق عبّارة الموصل.

علاوة على ذلك، يعدّ مسلسل الحرائق والتدمير والتخريب في العراق جزءًا من الصراعات السياسية المتواصلة في البلاد، إلى جانب حقيقة افتعال الحرائق والكوارث للتغطية على أحداث أكبر أو لتمرير مخططات أنكى وأمر، وقد أثبتت الأيام أن الفاسدين والمفسدين الذين يتحكمون بالعراق مصممون على الانتقام من الشعب العراقي وإحالة العراق خرابا يبابا قبل أن يتركوه ويذهبوا إلى الدول التي خزنوا فيها ما سرقوه من السحت الحرام. وفي كل الأحوال يبقى الشعب العراقي المتضرر الوحيد من هذه الحالة المزرية.
إن الغياب الممنهج للسريان الفعال والمتساوي للقانون على الجميع، بغض النظر عن المناصب السياسية والانتماءات الحزبية والهويات الفرعية، هو الذي جعل مكافحة هذا الشر المستطير أمرًا مستحيلًا في الوقت الراهن وفق المعطيات الحالية. ومن دون هذه المكافحة، ستظل المساءلة والحكم الرشيد مجرد حلم بعيد المنال. ومن أجل استعادة ثروات البلاد المنهوبة، يحتاج العراق إلى حكومة وطنية حقيقية تلبي طموحات الشعب. وقبل ذلك يحتاج العراق إلى إصلاح اقتصاده المعتمد على النفط، وتعزيز التنويع الاقتصادي ودعم القطاع الخاص وإعادة بناء بنيته التحتية المتهالكة ومعالجة التحديات طويلة المدى لتغير المناخ.

ولتحقيق هذه الأهداف الاقتصادية، يحتاج العراق إلى نظام سياسي جديد ينتهج سياسات خارجية سلمية تجنبه الصراعات، وتمنعه من التدخل السلبي في شؤون جيرانه، وتجعل البلاد مركزا للصناعة والتجارة، وتعمل على توسيع العلاقات في مجالات سياسية أخرى، بما في ذلك الاقتصاد والتعليم. وتلبي طموحات العراق ليستعيد وضعه الطبيعي في المنطقة ويكون لاعباً رئيسياً في تعزيز ثروات الشرق الأوسط بأكمله.
لقد تعلم العراقيون الكثير من السنوات العشرين الماضية، لكن السنوات المقبلة أكثر أهمية، وأيقن العراقيون أنه ينبغي أن يكون هدفهم عراقاً مستقراً يتمتع بالسيادة الكاملة، ويعيش في سلام مع نفسه ومع جيرانه، ويكون مركزاً للنمو الاقتصادي الإقليمي، وقوة للاستقرار. واستيقن العراقيون إلى ضرورة مناقشة هذه الرؤية في بغداد، وليس في طهران أو واشنطن أو في أي عاصمة أخرى. يستطيع العراق أن يحقق التجديد والأمل إذا تمكن الوطنيون من أبنائه من اغتنام الفرصة.

وعود فارغة للإصلاح

اعتبر بعض المراقبين أن محمد شياع السوداني، الذي تمكنت تشكيلته الحكومية من نيل ثقة مجلس النواب الحالي في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2022، شخصية مستقلة قادرة على التعامل مع الأحزاب والكتل السياسية. ويخشى كثيرون من أن يكون ترشيحه امتداداً لنظام المحاصصة السائد منذ عام 2003، وأن حكومته لن تكون قادرة على التعامل مع القضايا الصعبة الموروثة عن سابقاتها.
وعلى الرغم من أن السوداني قد أعلن تبنيه أفكارا جمعت بين مطالب وتطلعات مختلف القوى والحركات العراقية، ويهدف إلى تجنب أخطاء الحكومات السابقة من خلال السعي للحصول على الشرعية الكاملة، بحسب تعبيره. إلا أن ما جرى من أحداث ووقائع وما ظهر من حقائق بعد تسنمه المنصب، ولاسيما قضية سرقة القرن ومهزلة استعادة بعض ما سرق من مصفى بيجي، أدى إلى استمرار تراجع الثقة الشعبية بحكومته بسبب الانتشار المستمر للفساد والإصرار على حماية الفاسدين والتدهور السريع للخدمات والأوضاع الاقتصادية؛ الأمر الذي يمنع معالجة القضايا العالقة، إلى جانب استمرار الهدر المالي من عائدات النفط.

الأرقام الحديثة لحجم الدولار المعروض للبيع في مزاد العملة يضع حكومة السوادني بموقف محرج

إن التحديات الكثيرة والموروثة من الحكومات المتعاقبة السابقة، والبيئة السياسية التي تعاني من استقطاب حاد يجعل من المستحيل إجراء الإصلاحات المطلوبة، التي ستستغرق في حالة توفرت النوايا الحسنة والإمكانات اللازمة لذلك، سيتطلب مدة زمنية طويلة لإعداد الأساس المناسب قبل أن تتمكن الحكومة من تنفيذه. علاوة على ذلك، إن النظام السياسي القائم في العراق يقضي بضرورة انتماء رئيس مجلس الوزراء إلى الكتلة البرلمانية الفائزة، ويجعل السلطتين التشريعية والقضائية تابعة إلى السلطة التنفيذية وخاضعة لها.

وهذا يطرح عدة أسئلة. فكيف سيتمكن السوداني من تمرير وعوده للإصلاح من دون أن يكون لديه أكبر كتلة نيابية تمكنه من تمرير القوانين التي تقدمها حكومته للمجلس بسهولة؟ وكيف يمكنه ذلك وسط انتفاء مبدأ الفصل بين السلطات بحسب النظام السياسي القائم في العراق؟
لقد علم العراقيون أن مطالبهم المشروعة مرتبطة ارتباطا مباشرًا ووثيقًا بالإصلاح وبتصحيح الجهاز الإداري الحكومي العام؛ فالكثير من المشاكل الخدمية والاقتصادية سببها تسويات واتفاقيات ارتبطت دائما بسياسات التناوب الحزبي بين الوزارات، واستمرار نفوذ الأحزاب على العمل الوزاري والتدخلات السياسية الكبيرة في عمل الوزارات، يجعل من القرارات الاقتصادية والإدارية والأمنية كافة قرارات عشوائية. وإن العمل القانوني لترسيخ الإصلاحات الحقيقية وإقرارها يعتمد بشكل صارم على القانون وليس ما إذا كانت تستهدف حزباً سياسياً معيناً أو تلغي التعيينات في المناصب العليا التي تمت في عهد حكومة الكاظمي.
إلى جانب ذلك فإن تعطيل دور وسائل الإعلام في استهداف الفساد ومكافحته والاستحواذ عليها من قبل الميليشيات الولائية والأحزاب المتنفذة، وسلب حق حرية التعبير وإسكات الأصوات المناهضة والمعارضة بالتهديد والوعيد، من أجل كسب الوقت وتكريس ثقافة إفلات الفاسدين من العقاب واستحالة البدء بإجراءات محاسبتهم.

الدستور يكرس عدم الإصلاح

وبالإضافة إلى الوعود الفارغة للإصلاحات التنفيذية، فإن هناك قضايا أخرى تشمل أركان النظام السياسي الثلاثة: التنفيذي والتشريعي والقضائي، وكلها بحاجة إلى الإصلاح الشامل، فمنذ عام 2003، اعتمدت الحكومات المتعاقبة في العراق قوانين وتشريعات برلمانية لتغيير بعض الممارسات السياسية، أو مواجهة خصومها، أو تمرير مشاريعها. إذ إنه يمكن للكتلة النيابية الأكبر تمرير مشاريع القوانين التي تلبي رغباتها ورغبات الجهات الداعمة لها. يزاد على ذلك، هناك 51 مادة مؤجلة في الدستور النافذ في العراق تليها عبارة “تصدر بقانون”. وهذا يعطي مجلس النواب الحق في تشريع وتأجيل القوانين تماهيًا مع المصلحة الحزبية الضيقة.
كما تتمتع المحكمة الفيدرالية بصلاحية تفسير المواد الدستورية وتغيير آثارها السياسية، وخاصة المواد الأكثر إثارة للجدل. وإن دور المحكمة الدستورية مهم ليس فقط في تفسير النصوص، بل في تحديد الممارسة السياسية المرتبطة بها، وسط ازدواجية قانونية عند تطبيق وتنفيذ بعض النصوص الدستورية. على سبيل المثال، ما جاء في تفسير المحكمة الاتحادية للمادة 76 من الدستور بشأن الكتلة الأكبر التي تتشكل داخل مجلس النواب، وأنها ليست بالضرورة هي الفائزة في الانتخابات. وعملياً، يعني ذلك أنه ليس شرطًا أن يطالب الفائز بالانتخابات بتشكيل الحكومة من الناحية القانونية، إضافة إلى شرعية ترشيح ائتلاف إدارة الدولة لرئاسة الوزراء بعد انسحاب القائمة الفائزة، الأمر الذي يلغي الدور الرئيس للانتخابات وينفي الحقوق المترتبة على نتائجها.

المنظمة الأممية مكتوفة الأيدي

وقد وقفت الأمم المتحدة -وما تزال- مكتوفة الأيدي حيال ما جرى ويجري العراق ما بعد الغزو الأمريكي في العام 2003، وتغاضت عن ارتكاب الانتهاكات والفظائع وفقدان المزيد من الأرواح في البلاد، واكتفت باتخاذ إجراءات شكلية ومواقف غير حاسمة متماهية مع رغبات دولة الاحتلال الأمريكي أو خاضعة لها، مواقف لا تتعدى الإعراب عن القلق أو القلق الشديد أو التنديد والاستنكار؛ الأمر الذي أدى إلى عواقب كارثية في العراق والمنطقة، وأفقد الأمم المتحدة حيادها ومصداقيتها تجاه ملف العراق، بل ونزع عنها أهليتها في القيام بدورها المحوري في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. وبموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1500؛ تأسست في العام 2003 بعثة الأمم المتحدة لـ”مساعدة” العراق المعروفة أيضا باسم (يونامي) وهي بعثة سياسية خاصة توسّع دورها بشكل كبير في عام 2007 بموجب القرار 1770. وفي الوقت الراهن، هناك ما لا يقل عن 648 موظفًا، 251 منهم موظفون دوليون يعملون في بعثة “مساعدة” العراق. وقد أثبتت هذه البعثة سواء عبر مواقفها أو بياناتها أو عبر الإحاطات الدورية التي قدمتها لمجلس الأمن أن الهدف من تأسيسها هو مساعدة حكومات الاحتلال المتعاقبة والميليشيات التي تشكلها وتكريس الفوضى والفساد في العراق وليس لمساعدة العراق المحتل وشعبه المقهور.
ودول العالم أجمع تشهد اليوم بأن غزو العراق واحتلاله الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 كان حربًا عدوانية، وقد شكل هذا الغزو انتهاكا صارخا لميثاق الأمم المتحدة وكذلك قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1441. وتوجد أسباب كثيرة توجب ملاحقة رئيس وأعضاء الإدارة الأمريكية على جرائم الحرب المرتكبة في العراق، وسيظل القانون الدولي معطلا حتى تتم مقاضاة ومعاقبة المرتكبين من قادة أمريكا على ما فعلوه. لذلك لدينا الآن عالما أو نظاما عالميا ينعدم فيه القانون، ويفتقر بالفعل إلى قانون دولي فعّال، وما نعيشه اليوم هو مجرد “قانون” العصابات، الذي يحكم على المستوى الدولي، وهذا أشد ضررا مما تسبب بإلغاء عصبة الأمم التي تأسست بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وإنشاء بدلا عنها الأمم المتحدة بدعوى أن الاعتداءات كانت قائمة على “الكذب”، وهذا جوهر ما تذرعت به دول الحلفاء لمعاقبة النازيين، ومع ذلك أمريكا فعلت ذلك وما تزال تفعل الآن جهارا نهارا ومن دون حساب ولا عقاب.

لقد لفت غزو العراق واحتلاله انتباه العالم إلى مخاطر انهيار الأعراف الدولية ضد الحرب العدوانية، وسيتطلب حل هذه المشكلة تعزيز دور الأمم المتحدة وإنهاء المعايير المزدوجة الحالية المطبقة على امتلاك أسلحة الدمار الشامل. ونقطة البداية لمعالجة هذه المشكلة هي أن تتحمل الأمم المتحدة مسؤولية مراجعة وتقييم ما حدث وما أدى إلى الحرب ضد العراق وتوجيه الانتباه إلى انتهاكات ميثاق الأمم المتحدة التي حدثت عندما شرعت أمريكا وحلفاؤها في غزو واحتلال العراق من دون إذن من مجلس الأمن. وعند القيام بذلك، فلابد أن تكون النتيجة التي لا مفر منها هي أن الحرب التي قادتها الولايات المتحدة لم تكن قانونية ولا شرعية. علاوة على ذلك، خدع قادة أمريكا الشعب الأمريكي في ارتكاب هذا الغزو والاحتلال، لدولة أجنبية (العراق) لم تهدد الولايات المتحدة قط؛ وهكذا، فإن هذا الغزو والاحتلال العسكري اللاحق يشكلان خلاصة “الحرب العدوانية” التي تعدّ عدوانًا دوليًا غير مبرر وغير قانوني.
إن التخلي عن القاعدة القانونية لعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة أدى إلى حدوث جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في العراق بناءً على أدلة كافية، وكان يمكن أن تكون حجة قوية لنشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، بناءً على إذن من مجلس الأمن لمنع استمرار تلك الجرائم، وهذا لم يحدث في حالة العراق، وعلاوة على ذلك استندت الحرب إلى معلومات خاطئة، واستخبارات تمت فبركتها، ومقدمات زائفة، وتحريفات وخداع. وفي كل الأحوال فإن السيطرة على أسلحة الدمار الشامل لا يمكن أن تتحقق في النهاية إلا بالتخلص من ازدواجية المعايير ووضع جميع أسلحة الدمار الشامل تحت رقابة دولية يمكن التحقق منها أثناء تفكيكها وتدميرها؛ وهذا يتطلب مستوى أعلى بكثير من الإرادة السياسية من قبل الدول التي تمتلك حاليًا أسلحة الدمار الشامل.
وانطلقت في أيلول/سبتمبر الماضي، الدورة الثامنة والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة في مقرها بنيويورك، حيث تجمع قادة العالم لمناقشة موضوع “إعادة بناء الثقة وإعادة إحياء التضامن العالمي”، وتسريع العمل بشأن خطة عام 2030 وأهداف التنمية المستدامة الخاصة بها نحو “تحقيق السلام والازدهار والتقدم والاستدامة للجميع”، بحسب المعلن، ولكن خيبة الأمل إزاء حقيقة إعطاء الأولوية للمصالح الضيقة للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن على حساب المصالح الإنسانية للشعوب في أنحاء العالم، وأن القوى الكبرى في الأمم المتحدة تفرض الديمقراطية بالقوة في جميع أنحاء العالم، لكنها سعيدة بممارسة العكس في المنظمة الأممية؛ الأمر الذي يحول دون الموافقة على أي إصلاح للواقع الراهن ويؤدي إلى تقويض مصداقية الأمم المتحدة وبعض أجهزتها، وخاصة مجلس الأمن. وباتت معظم دول العالم متفقة على ضرورة إصلاح الأمم المتحدة وقد تم الحديث عن ذلك مرارا وتكرارا ومنذ مدة طويلة، ولكن لا تزال لم تتوفر الشجاعة الكافية والإرادة الحقيقية لتنفيذ هذا الإصلاح أو حتى للشروع في إجراءاته، وإذا كانت الجمعية العامة قد اختارت بشكل صحيح إعادة بناء الثقة باعتبارها أمرا حاسما في استعادة الاستقرار والرخاء في العالم، فلا بد من أن تكون المنظمة فاعلة وتتمتع بقدر كبير من النزاهة والحياد وصولا إلى تكوين نظام عالمي عادل تعززه بنية مالية عالمية عادلة.
ولكن وفي ضوء استمرار الولايات المتحدة في تحايلها على القانون الدولي، يتضح أن القادة الأمريكيين مصرون على منح أنفسهم الحرية لارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الجنائي الدولي دون الخضوع للاختصاص القضائي ولتفادي محاكمة ومعاقبة القادة المسؤولين في الولايات المتحدة على أفعالهم العدوانية، وكان من الإجراءات المبكرة لإدارة جورج بوش الابن هو “إلغاء توقيع” المعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن تظل الأمم المتحدة مدينة لنفسها وللمبادئ التي تقف المنظمة من أجلها بعدم السماح بانتهاك القانون دون عقاب، أو على الأقل لفت انتباه الشعب الأمريكي إلى حجم الانتهاكات التي يرتكبها حكامه باسمه.
ولكي تخطو الأمم المتحدة أول خطوة في مسار الإصلاح الحقيقي يجب عليها إصدار تقرير حول الإجراءات غير القانونية التي تقوم بها أمريكا، لاطلاع الشعب الأمريكي على الأعمال غير القانونية التي تُرتكب باسمه، وعلى لجنة الأمم المتحدة التي تدرس انتهاكات القانون الدولي في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق القيام بذلك بشفافية تامة، إلى جانب النظر بعناية في أكثر من عقد من العقوبات المفروضة على العراق ونتائج تلك العقوبات من حيث الأرواح البشرية التي أزهقت من جرائها والمعاناة المركبة التي عايشها المدنيون الأبرياء في العراق.

إرث كارثي

في الذكرى العشرين للغزو، من جملة الإرث الكارثي لما تسمى “عملية حرية العراق” هو إبقاء العراق في حالة حرب دائمة أودت حتى الآن بحياة أكثر من مليون و350 ألف مدني من الرجال والنساء والأطفال. وفي كل عام يضاف المزيد من القتلى والجرحى، حيث لا يزال الناس يعيشون تحت تهديد الاستهداف والقتل الذي لم يتوقف في كل الظروف والمناسبات، على الرغم من أن هذه الوفيات لم تُذكر في الارتفاع المفاجئ لاهتمام وسائل الإعلام الغربية.
ولا توجد في الأفق أي نهاية لأعداد القتلى والجرحى، وخسارة العراق المتزايدة وأحزانه ومآسيه، لا يبدو الأمر كذلك حتى لو كان العنف نفسه سينتهي غدًا، وذلك من جراء الكم الهائل من الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة التي تفوق عدد سكان العراق، وهذا ما أكدته تقارير الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى