أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حق القول

دستور بمقاسات الخراب (2)

الشعوب عبر التأريخ القريب والبعيد هي “للأسف” من تدفع ثمن الاطماع والتطلعات وحتى الاحلام غير المشروعة للسلطات الحاكمة، حتى صار ذلك اشبه بضريبة واجبة الدفع لابد ان تسلب الشعب اي مدخرات قد عمل على ادخارها لأيام عجاف.
وقد سجل تأريخ العراق الحديث كلمة تحذير مخلصة وكبيرة في معانيها ومقاصدها، لنائب عن “لواء الموصل” قالها عام 1924 حينما كان عضوا في لجنة شكلها المجلس التأسيسي ضمت نائبا عن كل محافظة عراقية “كانت آنذاك تسمى لواء” لدراسة مشروع اول دستور للعراق الحديث صدر عام 1925، قال فيها مخاطبا اعضاء اللجنة: “ارجوكم ان تقدروا جسامة وخطورة ما نفعله وحجم المسؤولية التي تقع الآن على عاتقنا جميعا، فما نكتبه اليوم بأقلام الحبر ربما سيحتاج شعب العراق الى ان يقدم انهارا من الدم لتغييره”.

فأي مسؤولية كبيرة تلك التي ينطوي عليها أي قانون، وخاصة الدستور؟
الدستور عند المختصين هو: القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة “بسيطة أم مركبة” ونظام الحكم “ملكي أم جمهوري” وشكل الحكومة “رئاسية أم برلمانية” وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات بين السلطات وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة.
ويشمل اختصاصات السلطات الثلاث “السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية” وتلتزم به كل القوانين الأدنى مرتبة في الهرم التشريعي فالقانون يجب أن يكون متوخيا للقواعد الدستورية، وكذلك اللوائح يجب أن تلتزم بالقانون الأعلى منها مرتبة إذا ما كان القانون نفسه متوخيا القواعد الدستورية. وفي عبارة واحدة تكون القوانين واللوائح غير شرعية إذا خالفت قاعدة دستورية واردة في الوثيقة الدستورية.
ومن هذا التعريف يمكن ادراك كيف كان ينظر الرعيل الاول الذي وقع على عاتقه تأسيس الدولة العراقية الحديثة، لخطورة المسؤولية وطبيعة ما هو مطلوب منهم، وفي مقدمتهم الملك فيصل الأول “رحمه الله” ازاء وضع “أول” دستور لدولة العراق الحديثة، ففي خطاب التنصيب يوم 23 آب 1921، قال الملك فيصل الاول ان أول ما سيقوم به هو المباشرة بأجراء انتخابات لمجلس سيتولى بمشورته وضع دستور للعراق يقوم على قواعد الحكومات الديمقراطية ويعين أسس حياتها السياسية والاجتماعية، معتمدا في ذلك على تعهدات قدمتها دولة الاحتلال البريطاني في صك انتدابها للعراق “آنذاك” في وضع قانون اساسي للعراق في مدة لا تتحاوز ثلاث سنوات من تاريخ الانتداب، وتتولى عرضه على عصبة الامم المتحدة للمصادقة عليه، وفي الأشهر الاخيرة من عام تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921، شكلت لجنة بريطانية خاصة استعانت بدساتير “استراليا ونيوزلندا وايران” لأعداد ذلك القانون، وبعد شهور من العمل.. عرضت اللجنة في شهر آذار عام 1922 المشروع على الملك فيصل الأول، فأحاله الى لجنة عراقية شكلها بنفسه من “وزير العدلية” و “وزير المالية” والسكرتير الشخصي للملك. وبعد التدقيق اعترضت اللجنة على المشروع، ووضعت مشروعا آخر يمثل وجهة النظر العراقية، وقد استوحت بعض احكامه من الدستور العثماني وبعض دساتير الدول الاخرى كالدستور الياباني.
في نيسان عام 1922 تم ارسال مسودة المشروعين الى وزارة المستعمرات في لندن، التي  لم تكن راضية على سياسة ملك العراق واعتراضه على مشروع القانون الذي اعدته اللجنة البريطانية، لذلك قامت بإعداد مشروع آخر قالت انه خرج من رحم المشروعين السابقين، لكنه وكما ظهر جليا قد أعاد تسويق مشروع اللجنة البريطانية مع اضافة مواد قلصت بموجبها صلاحيات الملك وجعلت الحكومة تحت اشراف المجلس التأسيسي، وبما يسمح لبريطانيا السيطرة على تلك الحكومة وتوجهاتها من خلال قدرة المجلس التأسيسي الذي تسعى بريطانيا الى ان يكون العديد من رجالاتها اعضاء فيه .
ومرة اخرى، أعيد المشروع الجديد “الثالث” الى بغداد في شباط عام 1923، فقرر مجلس الوزراء وبتوصية من الملك فيصل الاول، تشكيل لجنة مشتركة “عراقية- بريطانية” لدراسة المشروع فقامت اللجنة “بعد الاستعانة بالحقوقيين” بإدخال تعديلات عديدة على المشروع، وأرسل التعديل مرة اخرى لوزارة المستعمرات البريطانية في لندن يوم 9 نيسان 1923، التي تولت بدورها “مرة أخرى” تنقيحه بما يتناسب مع مطامع بريطانيا في العراق، فأدخلت عليه العديد من التعديلات، وارسلته الى بغداد في ايلول من نفس العام. فقام الملك فيصل الاول بتأليف لجنة برئاسة عبد المحسن السعدون لدراسة المشروع، والتي قامت بدورها بأجراء بعض التعديلات عليه، ومن ثم عرضته على مجلس الوزراء الذي قام بإقراره، وأمر بنشره في الصحف في شهر تشرين الثاني عام 1923، وبذلك أصبح جاهزا لعرضه على المجلس التأسيسي، الذي شكل لجنة لدراسة المشروع ضمت نائبا عن كل لواء “صار اسمها محافظة فيما بعد” عقدت نحو ثماني جلسات درست فيها 80 مادة بعد جدل واحالات عديدة الى الحكومة، التي بدأت في  14 حزيران 1924 بمناقشة مشروع الدستور واقراره في العاشر من تموز بعد ان عقدت 18 جلسة استغرقت حوالي شهر واحد. ومن ثم ارسل الى عصبة الامم المتحدة التي قبلته واعادته الى العراق لتنفيذه، غير ان سلطات الاحتلال البريطاني عملت على تأخير نشر الدستور وتطبيقه، لأنها وجدته لا يتلائم تماما مع مصالحها واهدافها وخاصة فيما يتعلق بالنفط العراقي واستثماراته، الامر الذي اثار استياء شعبي كبير، فقامت القوى الوطنية من وجهاء بغداد وممثلي الطوائف والمذاهب والاحزاب بمقابلة رئيس الوزراء آنذاك ياسين الهاشمي وطالبته بضرورة الاسراع في وضع الدستور موضع التنفيذ، وقيام العراق كسلطة في السيطرة على ثرواته النفطية واستثماراتها والقرار فيها، وبذلك صدر اول دستور  للعراق الحديث عام 1925.
ولعل الملاحظات المهمة التي يمكن تأشيرها على ذلك الدستور، تلك التي تتلخص في ان امكانية تعديله متاحة ويسيرة وهي من الخطوات التي حرصت اللجان العراقية التي تولت كتابته ومناقشته على الاهتمام بها، فقد وضعت آلية سهلة وليست معقدة تسمح بالتعديل في حالة الحاجة الى ذلك، وليس كما هو حال دستور عام 2005 النافد منذ الاحتلال الامريكي للعراق وحتى اليوم، الذي تبدو اي عماية لتعديله من المستحيلات…
والحديث عن الدستور مازال فيه الكثير.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى