أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حق القول

في الطريق إلى نظام دولي جديد (2)

على أرض متحركة وبيقين ملتبس وبوصلات متعددة الاتجاهات والأهداف وحكومات متسلطة وأخرى مغلوبة على أمرها وشعوب مقهورة وأخرى تتطلع إلى الخلاص، شهد القرن العشرون اشتعال حروب عديدة في محاولة لإعادة اقتسام العالم المقسم،
حتى جاء انهيار الاتحاد السوفيتي ودول ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي أو الشيوعي مع بداية عقد التسعينات، إيذانًا بانقضاض الإمبريالية العالمية “المتمثلة بوجهها القبيح وهي الولايات المتحدة” انقضاضًا مسعورًا على القواعد الوطنية والتقدمية التي تعاكس الاتجاه الاستعماري وقواها ضد التطلعات الاستغلالية والتسلطية، وبعد تنامي المقاومة المشروعة لهذه القوى، قامت الامبريالية بتوحيد صفوفها وجهودها بهدف سحق هذه القوى وخنق تطلعات شعوبها وتجاربهم في ظل ما أطلقت عليه الولايات المتحدة تسمية: النظام الدولي الجديد، فكان العدوان الأمريكي- الأطلسي على العراق عام 1991 خير مثال على هذا التوجه البغيض الذي مازال يتنامى حتى أسفر عن وجه أكثر بغضًا وبشاعة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 حين شنت أمريكا عدوانها  الواسع ضد أفغانستان بحجة القضاء على الإرهاب، ثم تبعته بعدوانها الواسع ضد العراق واحتلاله عام 2003، فضلًا عن المضي في  تحضيرات أمريكية لوضع الخطط لشن الهجومات ليس فقط ضد القوى المعاكسة لها في الاتجاه والسياسات حسب، بل ضد حتى بعض شركائها الذين ترفض أن يكون لهم دور في رسم السياسات العالمية وتحديد آفاقها، بعد أن تنامت قدرات عدد منهم علميًا وتكنولوجيًا واقتصاديًا وبما يجر أمريكا إلى المنافسة الحقيقة التي تراها هي صراع يجب أن لا تخسر فيه معاركها.

وإذا كان البعض يعتقد أن فكرة الهيمنة والعدوانية قد تلبست الولايات المتحدة الأمريكية خلال سنوات معدودة مضت في ظل غياب القطب المقابل وتفردها بالنظام الدولي، فأنه قد وقع في وهم حسابي وخطأ تاريخي، ففكرة الاستغلال والهيمنة وسياسات المطامع والعدوان تعود في جذورها إلى مرحلة قيام الولايات المتحدة الأمريكية قبل أكثر من قرنين، والشواهد على ذلك كثيرة شكلت بمجملها إستراتيجية معلنة تجاه العالم كله خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج أمريكا بشكل معلن وصريح، بصفتها قوة مؤثرة على الساحة الدولية، وكان إعلان  الرئيس الأمريكي هاري ترومان عام 1945 خير معبر عن هذه الإستراتيجية حين قال في معرض حديثه عن النصر الذي تحقق بهزيمة الألمان واليابانيين وحلفائهم “إن النصر الذي حققناه قد وضع الشعب الأمريكي أمام المسؤولية الضرورية والملحة لقيادة العالم”، ووصولًا إلى لحظة هذا الإعلان كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد قامت ما بين عام 1898″العام الذي احتلت فيه الفلبين” وعام 1945 “العام الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية” باستخدام قواتها المسلحة 159 مرة، منها 73 مرة من دون إعلان الحرب رسميًا.
وفي الطريق إلى صناعة النظام الدولي الذي تريده، دخلت الولايات المتحدة الأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى اليوم بأشكال مختلفة من الحروب والصراعات، إذ أسهمت في نحو 70 بالمائة من الحروب المحلية ضد ما كان يعرف بالدول الاشتراكية، وفي نحو 30 بالمائة من الحروب التي نشبت بين الدول النامية، كما تورطت في 63 بالمائة من الحروب الأهلية و 31بالمائة من الحروب الانفصالية، مساندة في كل ذلك القوى المنبوذة والانفصالية كتعبير عن أهدافها في التفتيت وإيجاد قواعد للاستحواذ وفرض الشروط ونهب الثروات وتحجيم القدرات واستلاب المقدرات.
ومنذ  لحظة إعلان ترومان عام  1945وحتى لحظة إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب  الحرب الأولى على العراق “حرب الخليج الأولى” عام 1991 استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية  قواتها المسلحة نحو 220 مرة وقامت بالتهديد باستعمال السلاح النووي نحو 20 مرة، فضلًا عن إجرائها ما بين عامي 1963 و 1991 نحو 204  تجارب نووية سرية من بين 1080 من التجارب النووية المعلن وغير المعلن عنها.. ولا يمكن للعالم أن ينسى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة في العالم التي استعملت القنابل الذرية في ضرب مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في السادس والتاسع من آب 1945، من دون أن تكون مضطرة لاستعمال هذا السلاح الرهيب والفتاك، كما لا يمكن للتأريخ الإنساني أن ينسى قيام الولايات المتحدة الأمريكية باحتلال العراق عام 2003 بمبررات واهية لم تستطع أن تقنع بها حتى الأمم المتحدة “التابعة لها فعليًا” لكي تمنحها تفويضًا عبر مجلس الأمن يضفي الشرعية على عدوانها ضد العراقيين وبلدهم، وهو أمر لم يمنعها من أن ترتكب جريمتها وتمضي في خطتها لاحتلال العراق وتدميره والإعلان تكرارًا أنها القطب الأوحد وهي الزعيمة للعالم بلا منافس، وأنها فعلت وستفعل ما تريد سواءً قبل العالم ذلك أو رفضه، وتلك صورة من صور النظام الدولي الذي تريده الولايات المتحدة الأمريكية.
والحديث مازال فيه الكثير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى