أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حق القول

في الطريق إلى نظام دولي جديد “9”

إن الحرب الباردة “1947-1991” التي استمرت أكثر من “45” عامًا، كانت بحق مواجهة سياسية وأيديولوجية وأحيانًا عسكرية “بالنيابة”، بين القوتين الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وكانت نهايتها بسقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك منظومة ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي إيذانًا بإعلان واشنطن أن العصر الأمريكي بدأ وأن أهم ما يميزه هو سياسة العولمة “Globalization”  التي سبق للولايات المتحدة الأمريكية أن وقفت ضدها وحاربتها طوال زمن الحرب الباردة والتي تبناها الاتحاد السوفيتي تحت تسمية “الأممية”.فمع ظهور نظام دولي جديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية عام 1991، كان على كل الدول والشعوب مواجهة دعوة قسرية تحمل عنوان “العولمة” تستوجب منهم فتح الحدود والخضوع للقوة الأمريكية أو لقوة تحالف دولي تقوده واشنطن، ينطوي على صلاحيات التدخل في الشؤون الداخلية للدول والشعوب حتى إذا كان ذلك التدخل على حساب مبدأ السيادة أو الخصوصية الوطنية لهذه الدول والشعوب، فالعولمة وفقًا للموديل الأمريكي ليست مجرد سياسة لها أغراض وأهداف تحققها وينتهي استعمالها، بل هي استراتيجية لتفكيك وتدمير كل الأسس التي تقوم عليها الدول والأوطان والأمم، فأهدافها لا يمكن أن تتحقق إلا بفتح الحدود وعزل سلطات الدول وتحويلها إلى مجرد أدوات منفذة لأوامر ورغبات الولايات المتحدة الأمريكية وما يرتبط بها من مؤسسات وشركات متعددة الجنسيات التي تطالب بدورها رفع الحواجز في الميدان الاقتصادي أمام حركتها في الاستثمار والعمل، ومن ضمنها الحواجز الجمركية، وتقييد الدول بسياسة هيكلة الاقتصاد الوطني طبقًا لتعليمات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وبالتالي إخراج سلطة أي دولة من التأثير في مسار العمليات الاقتصادية الجارية عندها، أما  الفوضى الحاصلة من كل ذلك فهي “فوضى خلاقة” كما عبرت عن ذلك في حينها مستشارة الأمن القومي الأمريكي كونداليزا رايس “2001-2005” التي تولت فيما بعد  منصب وزيرة الخارجية الأمريكية “2005-2009″، باعتبار أن كل هذه الفوضى السياسية والاقتصادية وانعكاساتها الحادة على المجتمعات البشرية، ستؤدي إلى نشر وشيوع الديمقراطية، وأن كل الخسائر التي تحصل في سياق هذه الفوضى هي مجرد تضحيات “واجبة الدفع” من أجل أهدف سامية هي التمدن والديمقراطية، كما عبرت عن ذلك رايس في حديث لها مطلع عام 2005 مع صحيفة واشنطن بوست الأمريكية.
وعلى أساس ذلك، فأن العولمة في المنظور الأميركي لا تقتصر على جانب محدد من الحياة دون آخر، فهي استراتيجية لكل جوانب الحياة. فعلى سبيل المثال، نجد أن العولمة الأمريكية تدعو الدول في الجانب الإعلامي للاندماج في إطار ثقافة عالمية واحدة توجهها الولايات المتحدة التي تملك نحو 75 بالمائة من إجمالي الإنتاج العالمي للبرامج التلفزيونية، وتسيطر وكالاتها ومؤسساتها الإخبارية على الساحة الإعلامية الدولية بعد أن منحتها التكنولوجيا المتطورة القدرة على تحقيق تفوق تقني ونوعي لم يتوفر لغيرها من الوكالات والمؤسسات الإخبارية الأخرى، إضافة إلى أسلوب التشويق والإثارة الذي تعتمده في جلب انتباه المتلقين وسحبهم باتجاهها، ويلخص زبيغنيو بريجينسكي  مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق وأحد منظري السياسة الأمريكية المعروفين هذا الحال بالقول “إن الولايات المتحدة الأمريكية وهي تملك النسبة الكبيرة من السيطرة على الإعلام الدولي قادرة على أن تقدم للعالم أنموذجًا  كونيًا للحداثة”. بمعنى إنها قادرة على نشر مفاهيم “أمركة العالم” من دون النظر أو الاهتمام بخصوصيات البشر، ومجتمعاتهم، وأديانهم ومعتقداتهم.
وإذا كنا قد أشرنا إلى أن الدعوة الأمريكية للعولمة هي دعوة “قسرية” فذلك لأن واشنطن لم تترك مجالًا مفتوحًا في ظل نظام القطبية الأحادية للخيار يمكن للدول والشعوب من خلاله القيام برفض سياسة العولمة أو القبول بها.. فإذا رفضت دول معينة الدعوة الأمريكية لفتح الحدود ورفع القيود أمام عمليات التدخل التي تفرضها العولمة، فأن عليها تحمل نتائج هذا العمل باعتباره انتهاكًا “للشرعية الدولية” يتمثل في رفض الاندماج في تيار التطور والديمقراطية والسمو بحقوق الإنسان في التعبير عن رؤيته وخياراته، وهذا الأمر يتعارض مع المصالح الدولية التي يدخل في مفهومها السلام والأمن الدوليان. ذلك فأن الدول الرافضة سوف تتعرض إلى شتى أنواع العقوبات: حصارات، حروب، مؤامرات. وغيرها.
ومن هنا يرى الكثير أن العدوان الواسع الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق عام 1991 واستمرار حصاره الشامل نحو ثلاثة عشر عامًا واحتلاله عام 2003، كان وما يزال أنموذجًا للكثير من الحروب والحصارات التي تفرضها واشنطن في ظل مشروعها المتمثل بالعولمة وفي ظل النظام الدولي الأحادي القطبية الذي سيطرت عليه، وهي الآن تحاول أن تبقي عليه في ظل حراك دولي جدي ينطوي على تغيرات كبيرة في هذا النظام، خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
والحديث مازال فيه الكثير.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى