أخبار الرافدين
طلعت رميح

أحوال الدنيا

كوريا الشمالية تغير ثوب الفتى المشاغب!

حملت الصواريخ التي أطلقتها كورية الشمالية في الأيام الماضية، رسائل مباشرة تتعلق بالصراع التقليدي مع كوريا الجنوبية واليابان ومن خلفهما الولايات المتحدة، مثلها مثل كل الصواريخ التي أعتاد الكوريون الشماليون إطلاقها من وقت لآخر خلال السنوات العشر الأخيرة.
لكن هذه الإطلاقات الجديدة حملت دلالات أخرى مختلفة نوعًا ما تتعلق بتحول كوريا الشمالية إلى دولة قادرة على القيام بدور هجومي على الصعيد الإقليمي، مع التلويح بقدراتها الهجومية على الصعيد الدولي وإن وجودها الجغرافي كدولة مجاورة لكل من الصين وروسيا، لم يعد ميزة توفر لها الحماية فقط، كما كان من قبل، بل بات أساسًا لبناء كتلة استراتيجية في مواجهة التحالفات الأمريكية في آسيا، وإن كوريا الشمالية تحولت الآن من دولة تحميها الصين وروسيا، إلى دولة داعمة بقدراتها لكلتا الدولتين في المواجهات الجارية.
وقد خرجت كوريا الشمالية عبر تلك الإطلاقات من حالة الدولة التي تدافع عن وجودها المهدد، منذ الحرب الكورية في خمسينات القرن الماضي، إلى وضعية الدولة ذات القدرة على المشاركة بشكل هجومي في إدارة الصراع الإقليمي والدولي
بالدقة خلعت كوريا الشمالية الآن ثوب الفتى المشاغب وتحولت إلى دولة ذات قدرات وإمكانيات نوعية في الإقليم على صعيد الصراعات الدولية.
لقد زادت كوريا الشمالية تجاربها وإطلاقاتها الصاروخية مجددًا في الأيام الأخيرة باتجاه اليابان وكوريا الجنوبية،
وجاء رد الفعل الطرف الآخر، ليظهر حجم المستجد في تلك الإطلاقات ردت الولايات المتحدة بإجراء مناورات وصفت بأنها ذات طابع هجومي، مع الجيش الكوري الجنوبي، إذ جرى تحديد أهداف محددة وتدميرها بالصواريخ مع التنويه لإمكانية قصف المواقع الأساسية في كوريا الشمالية. كما أجرت القوات الجوية الأمريكية واليابانية مناورات عاجلة هي الأخرى. وكان الأهم مشاركة حاملة الطائرات الأمريكية النووية، رونالد ريغان، في المناورات البحرية مع قطع الأسطول الكوري الجنوبي ونشر منظومة صواريخ ثاد الأمريكية المتطورة لاعتراض الصواريخ، قرب العاصمة الكورية الجنوبية سيؤول.
وفي تفسير ما جرى، يمكن تسكين عملية إطلاق الصواريخ في خانة التفاعل المعتاد منذ سنوات، ويمكن القول إن هذا التفاعل جرى كرد مباشر على زيارة نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس إلى كوريا الجنوبية، إذ جاء توقيت إطلاق الصواريخ عقب مغادرتها كوريا الجنوبية، وهو يمثل تكرارًا، لما حدث من إطلاق الصواريخ بعد مغادرة بايدن اليابان، منذ عدة أشهر .
ويمكن القول أيضًا، إن كوريا الشمالية تواصل إستراتيجية الردع النووي التي اعتمدتها طوال السنوات الماضية إذ تقوم من وقت لآخر بإجراء تجارب لتحسين وتطوير قدراتها، لتؤكد أن يدها على الزناد انطلاقًا من رؤيتها المترسخ منذ نهاية الحرب الكورية بأنها دولة واقعة تحت تهديد وجودي.
لكن ظروف إطلاق الصواريخ وأنواعها ومداها وخطوط حركتها، تشير إلى أن كوريا الشمالية أرادت التأكيد على جاهزيتها لمواجهة تداعيات مرحلة الاضطراب الراهنة، بين الولايات المتحدة، وحلفائها والصين وروسيا.
رسالة كوريا الشمالية الأولى دفاعية، تقول إن لديها صواريخ باليستية وصواريخ كروز، إذ جرى إطلاق أنواع متعددة من الصواريخ، يمكنها مواجهة أية تهديدات، وربما أرادت القول أيضًا إنها لن تكون الطرف الضعيف الذي يمكن للولايات المتحدة وكوريا واليابان الرد من خلاله أو على أرضه إذا غزت الصين تايوان.
أما رسالتها الثانية فهي هجومية. فنحن أمام إطلاق 16 صاروخًا خلال أسبوع واحد، عبر أحدها الأراضي اليابانية التي تنتشر على أرضيها وتحميها قوات أمريكية، وهو صاروخ يصل مداه إلى 4500 كيلو متر، ما يعنى إمكانية وصوله بقوته التدميرية لقاعدة غوام الأمريكية التي تقع على بعد 3500 كيلو متر فقط من كوريا الشمالية. وهو أمر يتواكب مع الإستراتيجية الصينية المعتمدة حاليًا مع تايوان، إذ جرى اختراق أجواء الجزيرة بالصواريخ، خلال المناورات الصينية التي أحاطت الجزيرة من مختلف الاتجاهات.
والرسالة الثالثة والأهم هي رسالة إستراتيجية بأن كوريا الشمالية أصبحت مكونًا إستراتيجيًا في إدارة الصراع الجاري بين روسيا والولايات المتحدة من جهة وبين الصين والولايات المتحدة من جهة أخرى، أو أنها صارت في وضع إستراتيجي جديد على خلفية تلك الصراعات.
وفي تفسير هذا المعطى، هناك من يمكنه القول إن كوريا الشمالية تشعر بالخطر بسبب الأوضاع المضطربة بشأن تايوان وعودة الخلاف الروسي الياباني على جزر الكوريل، وأنها أرادت استثمار تلك الأوضاع بإبراز دورها الإستراتيجي
وأنها قررت تخطي حالة رد الفعل على التهديدات الأمريكية، وإرسال رسالة إستراتيجية مفادها أن موقعها الإستراتيجي على حدود روسيا والصين الذي كان دومًا نقطة ارتكازها في مواجهة هذه التهديدات، يتحول الآن إلى موقع إستراتيجي يمنحها عوامل القوة في الإستراتيجيتين الروسية والصينية وأنها تحولت إلى لاعب فاعل ضمن كتلة إستراتيجية كبرى.
كوريا الشمالية تقول إن الوقت حان لتحول نوعي في مكانتها ودورها
وأن دورها الذي استفادت منه الولايات المتحدة إذ ارتكزت عليه كعصى لتطويع إرادة حلفائها، اليابان وكوريا، الذي استفادت منه روسيا والصين في إمداد الحلفاء بالسلاح لتغيير التوازنات باعتبارها دولة لا تحترم ضوابط مجلس الأمن والأمم المتحدة صارت دولة ذات وزن إستراتيجي في إدارة الصراعات الدولية الحالية.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى