على هذه الأرض
استعير عنوان المقال من جملة هي جزء من قصيدة لشاعر فلسطين الكبير محمود درويش، تحمل الاسم نفسه من ديوان “ورد أقل” الصادر قبل 37 عامًا. استعير الجملة وأكمل الباقي منها: على هذه الأرض ما يستحق الحياة، وأنا أرى الشعب التركي يخرج في مشهد مؤثر ملبيًا نداء الوطن والإنسانية وهو يحفر بأصابعه المجردة تلك التلال التي تراكمت من أسمنت وحديد وخشب وحجر وزجاج بعد أن ضرب الزلزال المدمر فجر الاثنين السادس من شهر شباط، عشر مدن تركية جنوبية وبعض مدن سورية، بحثًا عن أحياء كانت أصوات استغاثة الكثير منهم تصل إلى أسماع الذين ما يزالون فوق الأرض، وقد امتزجت دموعهم بدموع من هم تحت الأرض والأنقاض، وقد عز عليهم أن سواعدهم لا تعينهم على حمل كل تلك التلال من الركام التي غطت مساحة مئات الكيلومترات في تلك المدن، راسمة صورة مأساوية لذلك الزلزال الكبير. لكنهم رغم ذلك كان كل واحد منهم مؤمنًا بأن ليس له غير سواعده الآن. هكذا كان كل مواطن يقف على سطح تلك الأرض يحدث نفسه، وقد عزم على أن يحفر حتى بأظافره ريثما تأتي المعدات ويحضر المدد الذي كان على الطرق، وقد انطلق من كل صوب وزاوية يسابق الزمن ويجتاز مصاعب تلك الطرق التي تحطمت والسبل التي تقطعت بفعل ذلك الاهتزاز القوي الذي أحدثه زلزال فجر الاثنين الذي اقترب كثيرًا في قوته من الدرجة الثامنة على مقياس ريختر المؤلف من تسع درجات.
لقد عبر الأتراك في حركتهم رغم الهلع والحزن والدموع التي ما انقطعت من عيون كانت قبل الرابعة بثواني من فجر ذلك اليوم مغلقة تغط كأصحابها في نوم عميق، سابحة في أحلامها… عن إرادة الحياة وهم يتحركون مشمرين عن سواعدهم في عتمة انقطاع الكهرباء وظلمة الليل ودرجة حرارة تدنت تحت الصفر المئوي، فزادها البرد والثلج والأمطار قسوة. تحركوا برسالة مفادها وحدتهم ووعيهم وتلاحمهم، وهي العوامل التي إذا ما حضرت كانت كفيلة بتحدي كل الصعاب وتجاوز كل العقبات والمطبات. فكانت صورتهم كتلك الصورة التي جسدوها يوم وقفوا ضد من تآمروا لقلب نظام حكمهم يوم الخامس عشر من تموز عام 2015.
إن حركة الأتراك “شعبيًا ورسميًا” كانت معبرة بعمق عن فوز الاستثمار في الشعب كرأس مال ثابت وحقيقي والذي راهنوا عليه طوال عقود مضت، فكان نجاح التعليم وكفاءة الخدمات وتطور العناية الطبية وازدهار الصناعة والزراعة والتجارة وزيادة أعداد العلماء والباحثين وتطوير وسائل النقل والري والثقافة و… حاضرًا ومعبرًا عن تلك اللوحة الرائعة التي تختصر عبارة الشاعر محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
كانت دموع ذلك الجندي وهو يخرج طفلًا من تحت الأنقاض خير معبر عن حب الحياة والاستثمار في رأس المال البشري، حتى صار الجندي الذي يحمي الحدود مكلفًا من نفسه في تلك اللحظة في حماية أرواح من هم بعد الحدود التي من المفروض أن يقف عندها، وإلا فلا معنى لحماية حدود ما بعدها مباح لكوارث تسلب الناس حياتهم. وتلك هي القيمة العليا للذود عن الحياة أينما كان موقع الإنسان ومهما كانت وظيفته.
لقد زاد في المنظر جلالًا، أن الأتراك الذين طبع الحزن على ملامحهم بشكل واضح، كانوا يبادرون بالتبرع بأموالهم وملابسهم وأغطية أولادهم، وكانوا يتنادون في الذهاب متطوعين إلى المدن التي ضربها الزلزال، وقد غصت بجموع الكثير منهم صالات المطارات في كل المدن التركية، وهم ينتظرون أن تقلهم الطائرات إلى حيث من يحتاجون لهم وهم لا يعرفونهم ولم يلتقوا يومًا بهم، وحيث الوطن يحتاجهم وحيث الإنسانية تستصرخ ضمائرهم. فتسمع منهم من دون تمييز أو استثناء عبارات: الله أكبر، وقد استقرت نفوسهم وأرواحهم وعقولهم عند حقيقة أن ما للإنسان غير الله الذي منحه الحياة وطالبه باحترامها والذود عنها. ومن استفزه نداء “الله أكبر” أنما هو جاهل وفاقد للبصيرة. فلا ملجأ من الله إلا إليه.
إن محنة زلزال فجر الاثنين، أظهرت كباقي المحن التي تمر بحياة الشعوب. إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، فعليها يعيش شعب يزرع ويصنع ويعمر ويتعلم ويكبر باسم الله، وهو شعب يستحق الحياة.